حين وصفها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأنها انقلاب سياسي لم يجانبه الصواب ، فانقلاب اريك شارون على حزب الليكود وتأسيسه حزباً سياسياً جديداً لم يكن مجرد إضافة حزب آخر للخريطة السياسية الإسرائيلية ، بل إنقلاباً حقيقياً ومستحدثاً وسم الخريطة السياسية _ الحزبية الاسرائيلية ونال من المسلمات الحزبية القديمة بشدة : وتاريخياً كان الليكود يحصد أصوات ناخبيه بصفته الحزب الأقدر على تحقيق المعادلة الاسرائيلية الأصعب .. معادلة السلام والأمن ، ولم يكن لليكود أن ينجح أبداً بحصد هذه الأصوات مالم يقرن الأمن بالسلام ، فالشعب الاسرائيلي الذي لم يستطع بعد نحو قرن من الزمان التخلص من عقدة الجيتو ، والذي عاش حروباً منذ أكثر من ستين عاماً لم تجلب له أبداً الطمأنينة والسلام ، أصبح يعنيه وهو يدلي بصوته الانتخابي بشكل أو بآخر أي كتلة حزبية تستطيع أن تحقق له حلم ( الأمن والسلام ) . وفي حين كان حزب العمل يعد بالسلام ، نزع الاسرائيليون للتصويت له ، ولكن اندلاع الانتفاضة ، وحالة الذعر الأمني التي وسمت الاسرائيليين جعلت الناخب الاسرائيلي يميل للتصويت للأحزاب اليمينية والدينية ، وهذا أمر مفهوم .. غير أن المواطن الاسرائيلي وهو يدلي بصوته لهذه الأحزاب لم يتخلَ للحظة عن حلمه بأن يعيش بسلام ، وكان الليكود دوماً يقرن الأمن بالسلام بدعايته الانتخابية . وحين قام أريك شارون بالخروج من غزة بعد أن نجح بتحجيم العمل العسكري الفلسطيني داخل الخط الأخضر بخاصة ، حظي بدعم الأغلبية المطلقة للشعب الاسرائيلي كرجل استطاع بالفعل أن يقرن الأمن بالسلام .. من هنا نستطيع فهم إحصائيات الرأي العام في اسرائيل التي أعطت حزب شارون أغلبية مستقرة على حساب الليكود ، فخروج أريك شارون من الليكود وتكوينه حزبه الجديد رفع الغطاء السلامي عن هذا الحزب ، وأظهره بأنه حزب يعارض الانسحاب من غزة وخارطة الطريق ولا آفاق سلمية له أبداً .. وفي الوقت الذي ضحى فيه الكثير من الاسرائيليين بالنتائج الاجتماعية والاقتصادية لوصول أحزاب اليمين للسلطة كونها توسمت فيها الامكانية والقدرة على تحقيق السلام ، فإن نزع شارون الغطاء السلمي عن الليكود أظهر عيوبه الاقتصادية والاجتماعية ووضعها بالصدارة ، ومن المعروف اسرائيلياً بأن النمو الاقتصادي الاسرائيلي يحقق نتائج ممتازة في عهد حكومات حزب العمل لاتصلها أبداً حكومات الليكود . وعلى ذلك أوردت استطلاعات الرأي العام الاسرائيلية نتائج كبيرة لصالح اريك شارون وحزب كاديما الجديد الذي شكله بعد الانسحاب عن الليكود ، فقد منحت حزب شارون أغلبية مستقرة ما بين 33 الى 37 مقعداً من مقاعد الكنيست الاسرائيلية التي تبلغ 120 مقعداً ، ومنحت حزب العمل 25 الى 28 مقعداً ، أي نفس قوته الحالية تقريباً ، وكانت الصفعة القوية جداً لليكود ، حيث منحته هذه الاستطلاعات من تسعة مقاعد الى 15 مقعداً فقط .. وعلى نفس المنوال منحت حزب يمين الوسط ، المسمى شينوي ( التغيير ) خمسة مقاعد بدل 15 مقعداً له الان . اللافت للإنتباه بأن هذه الإستطلاعات قد تمت قبل أن يحسم شيمعون بيرس أمره وينسحب من حزب العمل وينضم لكتلة شارون ، ومن الطبيعي بأن وجود شيمعون بيرس بكتلة شارون سيمنحها مصداقية سلامية كبيرة ، وسيسحب الكثير من الأصوات التي تقع في يسار الوسط لحزب شارون الجديد ، وسترفع عنه صفة اليمينية تماماً . في ظل هذه المعادلة أصبح من شبه المؤكد بأن حزب العمل لن يحصد أصواتاً كأكبر كتلة برلمانية ، وبالتالي يناط بها تشكيل الحكومة العتيدة ، فعمير بيرتس يمكنه حصد الكثير من الاصوات الشرقية وبعض أصوات الطبقة العاملة ، لكنه لايثير الأمن لدى الاسرائيلي كونه ليس خريج المؤسسة العسكرية الاسرائيلية كأريك شارون ، وبتقديرنا بأن إمكانيات نجاح حزب العمل على المنافسة وحصد أصوات تمكنه من تشكيل الحكومة الجديدة لن تتأتى بدون إشراك الجنرال القوي المحبوب جماهيرياً أيهود براك كوزير دفاع على الأقل إن لم يكن رئيس كتلة حزب العمل . على أننا بالمقابل ، ومن خلال تجربتنا بحركة مؤشرات الرأي العام الاسرائيلي لايمكننا أن نتوقع استمرار هذه النسبة حتى الانتخابات الاسرائيلية ، فاستطلاعات الرأي العام هناك متحركة بشدة ، وارتفاع شعبية شارون وحزبه الجديد لها علاقة بجدة الحدث نفسه ، وبتقديرنا بأن هذه النسبة مرشحة للنقصان وليس للزيادة ، مثلما بأن نسبة الليكود مرشحة للزيادة وليس للنقصان ، ولكن في مطلق الأحوال لن يحصد الليكود بالمطلق أصواتاً كأكبر كتلة برلمانية . ويسعى الليكود الان للمصادرة على المطلوب عبر الاستفادة من الميل اليميني للكنيست الحالية في محاولة الحصول على دعم 61 عضو كنيست وتكوين حكومة جديدة تبقي الانتخابات الاسرائيلية في موعدها الرسمي في نهاية عام 2006 ، ويستغل الليكود في ذلك انخفاض شعبية الكتل اليمينية وخوفها من خسارة الكثير من مقاعدها الحالية ، غير أنه من الصعب التكهن بأن الليكود سينجح في ذلك بسبب رفض حزب العمل وحركة ميرتس والاحزاب العربية وأعضاء الكنيست من كتلة شارون المنشقون عن الليكود ، إضافة لتذبذبات الأحزاب الدينية ومناقضة بعضها البعض . غير أنه في مطلق الأحوال ، فإن حزب شارون الجديد ، ونجاحه حتى الأن ، إستطاع ، ولأول مرة بتاريخ الدولة العبرية من ايجاد قوة وسطية ما بين القطبين الكبيرين الليكود والعمل .. فعلى مدار تاريخ الدولة العبرية كان هناك تقاطباً حزبياً دائماً ما بين حزب العمل والليكود ، ولم تنجح أي كتلة بفرض نفسها ككتلة اتجاه ثالث ، وحتى انشقاق الجنرال يغآل يادين عن حزب العمل عام 1976 وتكوينه كتلة برلمانية حصدت في حينه خمسة عشر عضو كنيست ، وانشقاقات أحزاب اليمين المتطرف عن الليكود ، وكذا تنامي قوة الأحزاب الاسرائيلية المتدينة ، فشلت جميعها في تكوين خط ثالث في الخريطة الحزبية والسياسية الاسرائيلية .