أدلي الناخبون الإسرائيليون بأصواتهم، وانتخبوا برلمانا جديدا. وبالرغم من أن حزب "كاديما" الجديد، الذي أسسه أرييل شارون قبل أن يدخل في غيبوبة لم يستيقظ منها بعد، فاز بعدد أقل من المقاعد مما كان يطمح إليه، إلا أنه من المنتظر أن يشكل عمود الحكومة المقبلة. ومن المنتظر كذلك أن يظل زعيمُ "كاديما" الجديد إيهود أولمرت، رئيسا للوزراء ويشكل ائتلافاً مع أحزاب أخري للحصول علي الأغلبية في البرلمان. واللافت أن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية كان لها دور بارز خلال هذه الانتخابات، وهو ما تجلي بشكل واضح في انهيار "الليكود" وإنشاء حزب يدافع عن حقوق المتقاعدين. إلا أن القضايا الأمنية تظل بالغة الأهمية في إسرائيل وحاسمة في الانتخابات، وقد تركزت بشكل خاص علي مستقبل العلاقات مع الفلسطينيين. أما العلاقات مع العالم العربي والولاياتالمتحدة وأوروبا أو حتي إيران فلم تنل نصيباً كبيراً من النقاش، كما لو كانت مواضيع أقل أهمية أو أنها ليست محل نقاش داخلي. ولدي إيهود أولمرت مخطط يقوم علي رسم حدود نهائية لإسرائيل في أفق سنة 2010، وهو مخطط يقدمه أولمرت علي أنه يعكس تضحية كبيرة من قبل الإسرائيليين لأنه يقضي بالتخلي عن مقولة "إسرائيل الكبري"، وتفكيك عدد من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. والواقع أن إنشاء دولة فلسطينية أمرٌ كان الزعيم الإسرائيلي قد عبّر عن القبول به رسمياً. ولكن هل يعني هذا أننا نتجه نحو حل نزاع دام طويلاً ويشكل عاملاً رئيسياً لعدم الاستقرار الاستراتيجي في منطقة من أكثر مناطق العالم عدم استقرار؟ للأسف يظل الشك سيد الموقف هنا، بالرغم من جهود الاتصال والدعاية السياسية وجهود العلاقات العامة المحمومة التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية. فإذا كان مخطط أولمرت للسلام يحظي بموافقة الإسرائيليين، فإنه مرفوض طبعاً بالنسبة للفلسطينيين. ذلك أن المشكلة تكمن أولا في الطريقة المقترحة، ففي حين يفضل حزب "العمل" وحزب يوسي بيلين الصغير إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين، يميل إيهود أولمرت إلي سياسة أحادية الجانب كتلك التي يبدو أنها نجحت في حالة قطاع غزة. إلا أن سلاماً حقيقياً في أي نزاع لا يمكن أن تفرضه جهة علي أخري لأن الأمر سيكون من قبيل عقد إذعان، أو نوعاً من وقف لإطلاق النار أُرغم الطرف المغلوب علي القبول به، ليس إلا. لقد أعلن الإسرائيليون لمرات عديدة فيما قبل أنه لا يمكنهم التفاوض مع ياسر عرفات، الذي كان يشكل في نظرهم عقبة في وجه السلام. واليوم يقولون إنه لا يمكنهم التفاوض مع حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لأنها منظمة "إرهابية". غير أنه طيلة الفترة الممتدة من يناير 2005 إلي يناير 2006، أي ما بين انتخاب محمود عباس وفوز "حماس" في الانتخابات، لم يشأ الإسرائيليون فتح أية مفاوضات مع الجانب الفلسطيني. ومما يجدر ذكره أن يوسي بيلين كان قد حذر إيهود أولمرت من أن "حماس" ستفوز بالانتخابات التشريعية الفلسطينية، في حال لم تدشن إسرائيل مفاوضات مع السلطة الفلسطينية. أما في حال أصبح مخطط أولمرت موضوع مفاوضات مع الفلسطينيين، فالأكيد أنهم لن يقبلوا به بسبب المسائل الحدودية التي ينتظر أن تشكل عقبة في طريقه. ومعلومٌ أن أية دولة، ولا حتي الولاياتالمتحدة نفسها، لم تعترف بضم إسرائيل للأراضي العربية المحتلة منذ 1967. فالقانون الدولي واضح في هذا الباب، إذ لا يمكن الاعتراف بضم أراض بالقوة. لقد نصت اتفاقات طابا في يناير 2001، ومبادرة جنيف في ديسمبر 2003، ومخطط الملك عبدالله بن عبدالعزيز (الذي اقترحه العاهل السعودي وتبنته الدول العربية، وينص علي اعتراف الدول العربية كافة بإسرائيل وتوقيع اتفاق سلام مقابل انسحاب هذه الأخيرة من جميع الأراضي العربية المحتلة، وإنشاء دولة فلسطينية) في أبريل 2002، و"خريطة الطريق" (التي تدعمها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا إضافة إلي الأممالمتحدة) جميعها علي تأسيس دولة فلسطينية علي الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة 1967 مع القدس عاصمة لها. إلا أنه من الممكن القيام بتعديلات حدودية، في حال دعت الضرورة إلي ذلك، عبر الاقتطاع من مساحة الدولة الفلسطينية المقبلة شريطة أن تتم الموافقة علي ذلك من قبل الجانبين ويتم تعويضها. والحال أن مخطط إيهود أولمرت يقوم علي الاحتفاظ بالقدس كاملة تحت السيطرة الإسرائيلية. وعلاوة علي ذلك، يرغب رئيس الوزراء الإسرائيلي في الاحتفاظ بجزء من الضفة الغربية حيث توجد الكتل الاستيطانية الكبيرة إضافة إلي محاور المراقبة الأمنية، وهو ما يتعارض تماما مع مختلف المخططات التي يدعمها المجتمع الدولي، بما فيه الولاياتالمتحدة. أما أولمرت فيأمل أن توافق هذه الأخيرة علي التنازل عما كانت تطالب به دائماً. ولكن ذلك يثير سؤالا ملحا وهو: ما الذي سيبقي من مصداقية القوي الكبري إذا قبلت هذا الطرح وهي من كانت شاهدة أصلا علي قبر خريطة الطريق التي كانت تنص علي تأسيس الدولة الفلسطينية أواخر 2005؟ ويأمل أولمرت أيضا أن يكون فوز "حماس" بالانتخابات حجة مقبولة لتبرير إحجام إسرائيل عن التفاوض مع الفلسطينيين، وبالتالي تبرير إملاء الحل الذي يختاره. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الفلسطينيون منهكون إلي هذه الدرجة حتي يقبلوا بهذا الأمر؟ الواقع أنه حتي في حال كانت غالبية الفلسطينيين كذلك، فستكون ثمة دائما أقلية سترغب في التعبير عن غضبها واستيائها بأي ثمن. ثم هل يقبل العالم الإسلامي بالتنازل بصفة نهائية عن القدس؟ الحقيقة أن هذه المدينة لا تهم الفلسطينيين فحسب، بل إنها تهم جميع المسلمين في العالم. وعليه، فعلينا للأسف أن نتوقع عودة العنف إلي الشرق الأوسط بعد فترة قصيرة من الهدوء.