الأقمار الصناعية التي ملأت السموات المفتوحة بفضائيات تفوق العدَّ والحصر، تضخ سيلا من المعلومات بسرعة البرق، ومن ثم سمع الناس عن أسماء ومصطلحات لم تكن متداولة من قبل، مثل: "الشمال والجنوب" و "الجات"، و"صندوق النقد"، و"البنك الدولي"، و"الدول المانحة" و"الحداثة"، "ما بعد الحداثة"، و"نهاية التاريخ"، و"صراع الحضارات" وكان يفترض أن تُحْدِث هذه الثورة قربًا في المشاعر مثلما أحدثت قربا في الزمان والمكان، غير أن الذي حدث عكس ذلك تماما، لدرجة أنك يمكن أن ترى ذلك في الأسرة الواحدة ، كل فرد له عالمه الخاص يراه ويعيش فيه من خلال جهازه الآيفون، أو الآيباد، فثورة الاتصال قوبلت بثورة "انفصال".. انفصال بالذات في اهتماماتها وحتى في مشاعرها وأحاسيسها عن الآخرين، ومن ثم فلم يعد الشأن العام همًّا يتحمل الفرد بعض مسؤولياته، أو يحظى باهتمامه، أو حتى يفكر فيه. ثم مرت مرحلة كانت الكرة الأرضية فيها على كف عفريت ، أو على حافة الهاوية، كما يقولون، فهناك حرب مفتوحة على شئ غامض وفضفاض، وليس له تشخيص أو تحديد يسمى بالإرهاب، وهناك تأجيج لروح العنصرية والصراعات الدولية، وهناك تنظير لنهاية التاريخ وصراع الحضارات، وبدأ العالم يواجه مشكلات من نوع خطير، حيث في الشرق متطرفون، وفي الغرب متطرفون أيضا. ومع الإحساس الحقيقي بالخطر الذى يحمله الواقع والدعوة إلى صراع الحضارت، نفض الإنسان عن نفسه شعور الانفصال وبدأ يحل محله شعور بضرورة الاتصال للبحث عن وسائل حقيقية للإغاثة والإنقاذ، ولم يجد الإنسان بدا من أن يمد يده للآخر يحاوره ويتداول معه هموم الحاضر القلق، والقادم المرعب الذي لا يكن خيرا للبشر، ويدفعهم دفعا للفتنة والصراع، وكأنهم قطيع من الغنم يجب أن يتفرقوا ويتمزقوا حتى تتوزع قوتهم ويمكن قيادهم والسيطرة عليهم. وبقوة التأثيرات الإعلامية ولأسباب كثيرة تم تحضير العفريت وتشخصن الفاعل هنا ولم يعد مجهولا، وظهر له وجهان كلاهما قبيح أحدهما الإرهاب والآخر العنصرية والكراهية. الإرهاب يختطف إسما إسلاميا، "تنظيم الدولة الإسلامية " ويحوله لمعنى حربي بحت ،يمارس القتل ببشاعة ليزيد من جرعات الغضب ، ويمعن في التشويه، وخلق العداوات لدين "الإسلام " الذى يشتق اسمه من السلام كمصدر، وينفرد بأنه وحده الدين الذي يقرر في مبادئه وأصوله حماية حق الحياة إلى أقصى مدى، و{ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ﴿المائدة: 32﴾ والعنصرية والكراهية يشكلان مزيجا لخلطة كريهة تمثل وجها آخر يتساوى مع الإرهاب، في خطورته ، تتبناه أحزاب يمينية مستفزة تحاول تفريغ المجتمعات من كل وافد، وتشوه وجه الحضارة، ولا تكتفي بأن تكون راديكالية بغيضة وإنما تمارس العنف وتحض عليه، قتل الصيدلانية مروة الشربيني في ألمانيا ،نموذجا وحادث الاعتداء على المركز الإسلامي في مقاطعة كيبيك في كندا ووقد ذهب ضحيته 6 شهداء و8 جرحي في الأسبوع الماضي، وبين هؤلاء وأؤلئك تقف الأغلبية في الشرق والغرب معا حائرة تبحث عن وسائل لنزع الفتيل قبل اشتعال الحرائق ، ومن ثم تردد كثيرا مصطلح حوار الثقافات ،وحوار الأديان ،ثم حوار الحضارات، وأنشئت له مراكز علمية وبحثية، وتخصص فيه أكاديميون من كل التخصصات في محاولة لوقف زحف الدمار الذي يمكن أن يحدثه الصراع الدولي في زمن ادخرت فيه القوى الكبرى في مخازنها ما يزيد عن عشرة أطنان من المتفجرات لكل فرد من سكان الأرض. وبينما ينشغل الجميع بنزع فتيل الخطر ويبحثون عن وسائل لتحقيق السلام والأمن يطل علينا السيد ترامب ليأجج نيران العنصرية ويمد لهيبها بمزيد من الوقود في تحد صارخ لكل القيم التي تعارفت عليها مجتمعات الدنيا وفي مقدمتها دول الغرب وأمريكا نفسها. أمريكا ترامب تنكرت لكل التزاماتها الدولية كقوة كبرى، وبدأت بعدائها للفقراء والمهاجرين الذين هم ضحايا لحروب وجرائم ضد الإنسانية مسكوت عنها سلبتهم أرضهم ودمرت بيوتهم وجردتهم حتى من آدميتهم ، وعندما فر الناس من الموت قوبلوا بكل أوصاف المهانة ونعتوا بكل نقيصة ودارت حولهم شبهة تغيير الهوية والإرهاب المحتمل، وكلهم من الشرق البائس الذى خططت أمريكا لإعادة تقسيمه عن طريق ما يسمى بالفوضى الخلاقة. ظاهرة ترامب ليست جديدة، لكن خطرها بدأ مخيفا في الدفع بالكراهية والعنصرية إلى مستوى يدخل بالإنسانية في النفق المظلم، ويفجر نسيج مجتمعات كثيرة تكونت في أصولها من تعددية عرقية ودينية مختلفة تصل في بعض المجتمعات إلى ما يزيد على أكثر من 100 ديانة و 200 جنسية، بل إن أمريكا نفسها مزيج من الهجرات من كل بلاد الدنيا دونالد ترامب لوكان محظوظا لجاء رئيسا في بلد من بلاد الشرق الأوسط التي تتمتع بيئتها بجينات تفرخ كل يوم دكتاتورا صغيرا يرتع ويلعب، ثم لا يلبث أن ينمو ويكبر، غير أن حظوظه السيئة ساقته ليكون رئيسا في الولاياتالمتحدة، ومن ثم فقد جاء في المكان الخطأ حيث لا يحتاج هذا المكان إلى نازي أو دكتاتور ، لأن كثيرا من دول الغرب المتقدمة تتمتع مؤسسات الدولة الحيوية فيها كالقضاء والأمن والشرطة والإعلام بالاستقلال التام ، صحيح أن الحزب الحاكم هو من يديرها وتخضع له خضوعا إداريا، ولكنه لا يتدخل في سياستها ، حيث تبعيتها الحقيقية للدولة وليس للنظام الحاكم ، ومن ثم فهي تخضع لثوابت الدولة الدستورية وليس لنزوات النظام أو نزق الرئيس وتهوره، وإذا اصطدمت قرارات الرئيس بنصوص الدستور وقيم المجتمع انحازت أجهزة الدولة كلها لمبادئ الدستور وقيم المجتمع ، وهذا ما فعلته قاضية حين حكمت ببطلان قرارات الرئيس فعلا بعد صدورها بساعات ، كما أن وزيرة العدل بالإنابة أمرت كل المحامين في وزارة العدل بالامتناع عن الدفاع عن قرارات الرئيس، وأنصاعت أيضا وزارة الأمن الداخلي الأمريكية لقرار المحكمة وامتنعت أن ترحل من دخلوا البلاد خلال هذه الفترة. ولأن الدول الكبرى تدار وفق نظام ثابت وليس بالمزاج الشخصي، ومن يخرج على هذا النظام تتدخل القوى غير المرئية لإبعاده واستبداله بغيره، والوسائل إلى ذلك كثيرة ومتعددة، ولها سوابق في التاريخ القريب والبعيد فهل يحدث ذلك يا ترى في أمريكا ترامب؟ بعد ظهور ثقب العنصرية الأسود ممثلا في دونالد ترامب يبقي السؤال المهم، كيف ستكون العلاقة بين الإسلام والغرب أو بين الشرق والغرب في الفترة القادمة؟ هل ستكون علاقة حوار وتعاون أم صدام ومواجهة تستدعي من جديد نظرية صموئيل هنتنتجنتون في صراع الحضارات؟ السؤال السابق يجب أن يحظى بأعلى قدر من اهتمام النخب الثقافية والمهتمين بالمشروع الإنساني الذي يتعرض برمته لحزمة من التحديات الخطيرة تدفع به إلى حافة الهاوية وتجعل مستقبله على كف ألف عفريت من الإرهاب والتعصب ودعاة الكراهية، ومن ثم فهزيمة النخب الشريفة والمحبة للسلام في هذا الصراع يجب ألا تكون مطروحة ، لأنها تعني ضياع البشرية ووقوعها أسيرة وضحية لسموم العنصرية والكراهية، والخوف كل الخوف من أن تتحول الكراهية والعنصرية من ظاهرة إلى أيديولوجية ومن ثم تبدأ دورة العنف لتضرب في كل مكان وفي أي مكان، وتلك بداية سقوط الإنسانية كلها في براثن نوعين من الجنون ، جنون الإرهاب من ناحية وجنون الكراهية والعنصرية من ناحية أخرى. ومن بعيد في داخل الثقب الأسود تظهر نقطة ضوء تزداد تألقا وإشراقا تتمثل فيما صدر ويصدر من ردود أفعال تخبرك أن الحرية ما زالت معشوقة الجماهير في الغرب، وأن الأغلبية الساحقة من شعوب الغرب تتمتع بصحة الفطرة وسلامة الحواس، كما أن إدراكها لحجم وخطورة عودة الفاشية والراديكالية لا يمكن أن يسمح للظاهرة إلا أن تكون دخانا يعكس الخطر باحتمال الحرائق، ومن ثم تجب السرعة في إطفائها قبل الاشتعال. والنتيجة ستكون حتما تحويل ظاهرة ترامب من مصدر خطر إلى مجرد جرس إنذار، وإما أن يذهب الرجل لشركاته يمارس فيها ما يريد ويترك البيت الأبيض لإنسان طبيعي موزون يجيد إطفاء الحرائق لا إشعالها، ولا يدفعه غرور القوة ونزوات الرأسمالية الجشعة لتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا والتنكر لسنن الكون وقوانين الوجود في تعددية الناس والمجتمعات والدول. ترامب العنصرية والكراهية، ظهر كثقب أسود بدأ حديثا في كشف المستور لدى الراديكالية الغربية عموما والأمريكية بشكل خاص، ومن ثم يجب أن نركز الضوء على أن ظاهرة الثقب الأسود في العلاقات الدولية والتي يمثلها ترامب ليست جديدة ، وإنما هي قديمة بعثت من بين رفات المقابر، وقد عانت منها مجتمعات الدنيا من قبل، واستطاعت البشرية بما فيها من خير مكنون أن تتغلب عليها وأن تدينها أخلاقيا وقانونيا، ويعنينا هنا أن نذكر الخائفين أن ترامب ظاهرة ليست مستدامة، فقبله كانت النازية وانتهت، وكانت الفاشية وانتهت، وما تبقى منها هو مجرد صدى السنين الخوالي ، يتعلق به قلة لا زالت تعيش معزولة داخل ذاتها ، لا ترى الدنيا إلا بعيون وطواط. ظاهرة دونالد ترامب شكلت جرس إنذار صدم الناس وصك آذان الجميع، فاستجابت الدول الحية مباشرة من موقع الفاعل لتحاصر الخطر وتنزع فتيل الحريق قبل أن يبدأ، فهل جرس الإنذار هذا سيكون له صوت وصدى بين شعوب أمتنا الإسلامية؟ أم أنها تفضل كما تعودت أن تكتفي بموقع المفعول به المنصوب لتلقي السهام..؟ وأقول للمسلمين وبخاصة الشباب وهم الهدف المقصود في الداخل والخارج، أتفهم بشكل كامل حجم الغضب الذي يسيطر على مشاعركم عموما، وفي مجتمع المهجر بشكل خاص، لكنى أحذر من ردود الأفعال المتهورة، فلا يجوز أبدا أن يدفعنا الغضب مهما كان للانحياز للتطرف في أي شكل من أشكاله، مهما كان سواد الصورة وبشاعة الثقب الأسود، لأن ذلك مقدمة للوقوع في شباك أحد الخطيئتين، خطيئة الإرهاب البغيض الذي نعاني منه وقد ألصق بالمسلمين ظلما وبديننا تهمة الشراسة والعنف والعدوان. أو خطيئة العنصرية والكراهية التي نأخذها على الآخرين ونعاني منها، ومن ثم فالانحياز لإحدى الخطيئتين" الإرهاب أو العنصرية" يناقض قيمنا الإسلامية التي نفخر بها وندعو الناس إليها كالمحبة والرحمة والتسامح، ومن هنا فليكن لنا من نظر العدالة وبصيرة الإنصاف ما يدفعنا إلى الانحياز لجانب الأغلبية التي تبحث عن السلام والأمن، وتنشط في البحث عن الحب وعن القواسم المشتركة في الشرق والغرب لتحقق الخلاص للدنيا من الخطيئتين معا الإرهاب والعنصرية والكراهية. بقيت نقطة على حرف مضيئ أقدمها هدية غالية القدر والقيمة ومدفوعة الثمن، ترامب سيذهب، وسيبقي الإسلام إشراقا يحتضن الدنيا .... ونهارا لا يعرف ليلا. المفتي العام للقارة الأسترالية.