عندما أطلق صامويل هنتنجتون نظريته الشهيرة حول «صراع الحضارات» في تسعينيات القرن العشرين قامت الدنيا ولم تقعد، وانبري الكثير من خبراء علم الاجتماع السياسي في تفنيد أسس هذه النظرية، وتفكيك المنطق الذي انطلقت منه وارتكزت عليه، واتفقت غالبية الخبراء والمتخصصين وقتذاك علي خطورتها وتهافت أسسها ومنطلقاتها، علما بأن العالم لم يكن يعاني الأجواء الملتهبة والمعقدة التي يمر بها في الوقت الراهن لجهة العلاقة بين الأديان والحضارات وغير ذلك، ومن ثم فإن ما صدر من تصريحات ومواقف في الفترة الأخيرة معادية للدين الإسلامي علي لسان ساسة غربيين ينطوي علي خطورة بالغة لجهة إشعال فتيل الفتن والصراع بين الأديان، واستعادة هذه الأجواء المدمرة للأمن والاستقرار العالمي.لعل أخطر ماصدر في الفترة الأخيرة لجهة العداء للدين الإسلامي ماقال به مرشح الرئاسة الأمريكية المحتمل دونالد ترامب، حيث طالب بعدم السماح للمسلمين بدخول الولاياتالمتحدة، بزعم أن المسلمين يضمرون الكراهية للأمريكيين مما يشكل خطرا علي البلاد، وهي تصريحات تفوح منها رائحة عنصرية بغيضة تستغل أجواء الخوف والقلق اللذين يسيطران علي الأمريكيين عقب حادثة إطلاق النار الإرهابية في ولاية كاليفورنيا.صحيح أن البيت الأبيض الأمريكي قد بادر إلي استنكار هذه التصريحات العنصرية، وطالب الحزب الجمهوري بإقصاء ترامب فورا من السباق الرئاسي، وقال المتحدث باسم البيت الأبيض إن «نوعية حملة ترامب الرئاسية فيها خطاب مكانه مزبلة التاريخ»، واعتبر أن تصريحاته مسيئة وتسمم الأجواء، ودعات مرشحي الرئاسة الجمهوريين، الذين تعهدوا بدعم الشخص الذي سيفوز بترشيح الحزب للتبرؤ من ترامب علي الفور، كما اعتبر «البنتاجون» الأمريكي أن المناداة بإغلاق حدود الولاياتالمتحدة بوجه المسلمين سيقوض الجهود الامريكية في التصدي للأيديولوجيات المتطرفة، وقال الناطق باسمه إن «أي شيء يعزز خطاب داعش ويضع الولاياتالمتحدة في مواجهة مع الدين الإسلامي ليس مخالفا لمبادئنا فحسب، بل يناقض أمننا الوطني ايضا».الأمر الذي يعكس إدراك السلطات الرسمية الأمريكية لخطورة هذا الخطاب العدائي للدين الإسلامي علي الأمن والاستقرار الداخلي، وكذلك علي مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية في العالم بأسره، ولكن ما يعنيني هنا ليس فقط تصريحات ترامب العنصرية الواضحة في فجاجتها وعدائها للإسلام، ولكن هناك أيضا مواقف غير معلنة كشفت عنها المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، ميليسا فليمينغ، حين سئلت عن الدعوة، التي أطلقها دونالد ترامب المرشح الجمهوري المحتمل في انتخابات الرئاسة، فقالت إن عشرات من حكام الولايات الأمريكيين تحدثوا معها بشكل مضاد لبرنامج إعادة توطين لاجئين سوريين ولاجئين آخرين في الولاياتالمتحدة، وأعربت عن قلقها من الخطاب المستخدم في حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية. من النقاط المهمة في هذا الشأن أيضا أن التصريحات العدائية للدين الإسلامي تلقي بالتأكيد رواجا لدي عوام الأمريكيين، حيث أشار استطلاع للرأي أجري أخيراً، وشمل عددا من الناخبين في ولاية كارولاينا الشمالية، إلي أن حوالي 72 % يرون أنه لا ينبغي أن يسمح لمسلم أن يكون رئيسا لبلادهم، بينما رأي نحو 40 % من المستطلعة آراؤهم أنه لا يتوجب أن تشرع الديانة الإسلامية في الولاياتالمتحدةالأمريكية. قد يقول قائل إن هذه هي مشاعر الشعب الأمريكي منذ اعتداءات 11 سبتمبر 2001، وأن الأمر يزداد سوءاً بعد كل اعتداء إرهابي يتورط فيه المسلمون، ولكن الحقيقة التي لا ينبغي إنكارها أن المطلوب في هذه الأجواء معالجة أسبابها لا النفخ فيها وتزويدها بمزيد من وقود العداء والاشتعال، لاسيما أن هذه التصريحات والمواقف لا تصب في مصلحة الولاياتالمتحدة بالأساس، ولا تخدم أهدافها ولا مصالحها الاستراتيجية، فضلا عن كونها تدمر أجواء التعايش بين الأديان والحضارات وتعيد العالم عقودا وقرونا إلي الوراء وتستحضر أجواء الحروب الدينية التي عانت البشرية منها طويلا، كما أنها تخدم بطبيعة الحال التنظيمات المتطرفة التي تتلقف مثل هذه التصريحات وتروج لها وتوظفها في استقطاب واستمالة الكثيرين في العالم الإسلامي. الأمر لا يقتصر علي ذلك، بل إن هذه التصريحات تهدر جهودا هائلة بذلت ولا تزال تبذل علي صعيد بناء أسس ثابتة للتعايش والوسطية والاعتدال وقبول الآخر في العالمين العربي والإسلامي، فليس من قبيل المبالغة القول إن تصريحا واحدا من هذه التصريحات الاستفزازية كفيل بنسف جهود سنوات طويلة تبذل علي صعيد إقناع الشباب العربي والمسلم بضرورة نبذ الخطاب التحريضي المتشدد للتنظيمات الإرهابية. إحدي إشكاليات تصريحات ترامب وغيره في الولاياتالمتحدة وغيرها من الدوائر الغربية أن أبعاد مواقفهم تتجاوز فكرة العداء للدين الإسلامي، فهي تطعن الأساس القيمي والحضاري للثقافة الأمريكيةوالغربية التي تنطلق من فكرة «نمذجة» العالم وفق معايير وأسس الحضارة الغربية، ومن خلال توظيف موجات العولمة المتتالية في نشر هذا النموذج القيمي من شرق العالم إلي غربه، وبالتالي فإن القول بإغلاق الحدود ومعاداة دين معين سواء كان الإسلام أو غيره يناقض جوهر الحضارة الغربية، وينسف قواعدها وأفكارها الأيديولوجية، فما بالنا والأمر يتعلق بالدين الإسلامي الذي يتجاوز عدد معتنقيه في العالم نحو مليار ونصف المليار نسمة، أي نحو 23% تقريبا من تعداد سكان العالم، ويمثل الدين الثاني من حيث الانتشار عالميا، ما يجعل نموذج الثقافة الأمريكية في صدام مباشر مع نحو ربع سكان العالم!!. يدافع ترامب عن فكرته البغيضة بالقول إنها تشبه السياسة التي اعتمدها الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت إبان الحرب العالمية الثانية ضد الامريكيين من أصول يابانية وألمانية وإيطالية، ويتناسي أن العالم قد تغير وإن الولاياتالمتحدةالأمريكية باتت القطب المهيمن علي مفاصل النظام العالمي، ولم يعد هناك من ينافسها وأنها ليست في صراع حقيقي أو حتي متخيل مع الإسلام، وأن أي صدام من هذا النوع ليس موجودا سوي في أذهان المتطرفين والعنصريين وأعداء الإنسانية من الجانبين.ولاشك أن الموضوعية تقتضي القول إن تصريحات ترامب ومواقفه المثيرة للجدل لا تستهدف المسلمين والإسلام فقط، بل هي موجهة، ضد غيرهم، حيث يستهدف كثيرا المهاجريين المكسيكيين ،ويتهجم باستمرار علي الهجرة من أمريكا اللاتينية، ويطالب بتشييد «جدار كبير» بين الولاياتالمتحدة والمكسيك، ويزعم أن الكثير من المكسيكيين المقيمين في الولاياتالمتحدة هم عبارة عن «مجرمين ومغتصبي نساء»!!، وبالتالي فإن خطاب ترامب يندرج بشكل عام ضمن التوصيف القانوني ل «الكراهية العنصرية» بحسب التوصيف البريطاني للممارسات من هذا النوع، حيث إن الفقه القانوني الأمريكي يستثني هذه الممارسات من العقاب، ويعتبرها نوعا من «السوق الحرة للأفكار» كما قال محلل أمريكي. الإشكالية أيضا أن المسألة لا تتعلق بترامب فقط: بل بعد أيام قلائل من تصريحاته أعلن توني أبوت، رئيس وزراء أستراليا السابق، أن «الحضارات ليست متساوية»، وقال إن علي الغرب إعلان تفوقه علي الإسلام الذي «يعاني من مشكلات كبيرة» علي حد تعبيره، وزعم أن «حضارة (الإسلام) تبرر قتل الناس باسم الإله». مثل هذه التصريحات والمواقف العدائية المتكررة تمثل هدايا مجانية لتنظيمات التطرف والإرهاب، وتعرقل أي محاولات جادة علي صعيد تجديد الفقه الإسلامي، وتطوير الخطاب الديني، والدفع باتجاه قبول الآخر والانفتاح عليه وتكريس قيم التعايش والوسطية والاعتدال، كما يفعل العديد من الدول العربية والإسلامية، التي تبذل جهودا هائلة علي هذا الصعيد، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تسعي جاهدة إلي تقديم النموذج البديل أو النموذج الحقيقي للإسلام المعتدل، الذي يجسد القيم الحقيقية للدين الإسلامي، كما تشجع المؤسسات الدينية المعتدلة في العالم الإسلامي، وفي مقدمتها «الأزهر الشريف» في مصر الشقيقة علي التصدي للفكر المتطرف واسئصال جذوره. لمزيد من مقالات سالم الكتبى