تمر مصر بأيام غبر، أيام تزداد غبرة يومًا بعد يوم. وشعبها يجرى تأديبه لأنه تجاوز الحد المسموح له بأن يريد أن يحول الصورة - مجرد غضب - إلى ثورة تأتى بأوضاع جديدة. ليس مسموحًا للصورة أن تبلغ أكثر مما بلغت يوم أن تخلى الرئيس السابق عن الحكم، فحسبها أنها أسقطت رأس النظام، وقضت على فكرة توريث الحكم من عسكرى إلى مدنى. ومما لا شك فيه أن جيش مصر أبلى بلاءً حسنًا، وقف إلى جانب الثورة، وحماها وقد تأكد من نجاحها نجاحًا يتفق مع مطلبه. واعتقد أنه ربما يعز على "العسكر" أن تضع هذه الثورة نهاية لحكمه الذى دام حوالى ستين عامًا متصلة ولم يعد الفصال ميسورًا. وحين تعهد المجلس العسكرى بتسليم السلطة فى موعد محدد لاقى تعهده ترحيبًا وارتياحًا، وإن كان هذا الترحيب والارتياح يمثلان من وجهة النظر العسكرية نكرانًا للجميل وتعجيلاً بالرحيل وهزيمة ناعمة للحكم العكسرى برمته. تأديب الشعب بدأ بإطلاق سراح السجناء من عتاة المجرمين ليعيثوا فى الأرض فسادًا بلا حدود مكانية أو زمانية، إنهم ينتهكون المحارم، ويقتحمون البيوت الآمنة، ويعتدون على السابلة ويقطعون الطرق ويصادرون ما معهم، ويخطفون الآدميين ويطالبون بالدية. هذا فضلاً عن حرائق تشب وفتن تحاك وما صاحب هذه وتلك من ضحايا بين قتلى وجرحى. الخلاصة أن ساد الخوف بين الناس. ثم بدأ تنفيذ الجزء الثانى من خطة التأديب وتمثل فى اختلاق الأزمات، فلا خبز ولا وقود ولا طعام ليسود الجوع بين الناس. هكذا نجحت الخطة فى جعل الناس جوعى خائفين ليتحسروا على أيام خلت من حكم العسكر، وليردد الناس ألا حاجة بهم إلى تلك المسماة بالديمقراطية، وليلعنوها إن كانت تعنى هذه الفوضى القائمة. اكتملت منظومة التأديب وتحقق الجوع والخوف. ألم يمن الله على قريش بأنه - سبحانه - أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، بما يعنى أن الطعام والطمأنينة هما عماد الاستقرار. والملاحظ فوق هذا كله أنه كلما اقترب موعد تسليم السلطة زاد التوتر حدة.. تراشق بالبيانات وتبادل الاتهامات. يحدث ما يحدث فى ظل برلمان منتخب قوامه حوالى سبعمائة عضو إلا قليلاً، وفى ظل حكومة عاجزة قوامها ثلاثون وزيرًا، وفى ظل محافظين لا يقدرون على شىء. كل هؤلاء يستنفذون عشرات الملايين كل شهر من دم الشعب دون عمل ملموس للنتائج. لعلكم تذكرون فاجعة قتل الحسين - سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأهله بأوامر من يزيد بن معاوية. وحين وصل أمر مصرعهم إلى الحجاز، ثار الأهل وطردوا عامل يزيد ووضعوا مكانه واحدًا منهم. فما كان من يزيد إلا أن أرسل إليهم جيشًا من أهل الشام وأمر قائده حال انتصاره أن يبيح المدينةالمنورة ثلاثة أيام لجيشه ليصنعوا بأهل الحجاز ما يشاءون. وبالفعل شهد أهل المدينة أهوالاً جعلتهم يبايعون يزيدا وهم صاغرون. أليس ما حدث فى المدينة منذ أكثر من ألف عام شبيها بما يحدث الآن على أرض مصر من استباحة المجرمين أرباب السجون لأهلها تمهيدًا لحملهم على الإذعان لما يملى عليهم؟ متى تتوقف الثرثرة الجدوب واستعراض القوى ويبدأ العمل المثمر. إننا نريد تفسيرًا لما يحدث قبل أن تشطح بنا الظنون. لك الله يا مصر.