يبدو أن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الرئيس الإيراني المنتخب حديثا، محمود أحمدي نجاد، على هامش أشغال قمة مكةالمكرمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي حول ضرورة أن تتحمل الدول الأوروبية تبعات مساعدتها يهود العالم في إنشاء وطن قومي لهم قبل أكثر من نصف قرن، قد تعدى تأثيرها مجرد ردة الفعل الدبلوماسية من قبل عواصم الغرب و تل أبيب. الواقع أن هذه التصريحات التي أوجدت بعدها موجة من "السخط" الرسمي لم تحمل في حقيقتها أي جديد بما أن الكل يعرف أن فضل قيام دولة الكيان الغاصب يرجع بالأساس إلى الإمبراطورية البريطانية و التي ساعدتها الظروف العالمية المناسبة لكي تكمل وعدها مثلما هو معروف ، و لكن الجديد هذه المرة أن هذا الكلام لم يعد مادة خطابات إعلامية فحسب لأنه لم يسبق قبل اليوم أن تفوه أي زعيم مسلم بمثل هذه الدرجة من الصراحة ، زيادة على أن الأمر برمته جاء في وقت تعرف فيه دولة الكيان فترة تجاذب شديد بين كل أطياف الطبقة السياسية هناك على مرمى حجر من الانتخابات البرلمانية التي ستجري بعد أشهر قليلة. فهل من الممكن لنا أن نتوقع أن هذه الأزمة الجديدة سوف تمر مثلما مرت كل سابقاتها بما أنه قد سبق قبل اليوم و أعلن ذات الرئيس أن "دولة إسرائيل يجب أن تمسح من الخارطة"؟ الإجابة على هذا التساؤل الذي لا شك و أنه قد بدر إلى ذهن كل متابع للأمر ليست على نفس قدر سهولة طرحه ، بما أن معطيات كثيرة سوف تقف في وجه كل من يحاول فك رموز هذا التحول اللافت في خطابات القيادة الإيرانية قبل الخوض في حيثيات القضية على جانبها الإسرائيلي. لم يكن غريبا جدا على أغلب الملاحظين أن يتوقعوا "خرجة" من هذا العيار بما أن رئيس إيران الجديد هو رجل يجمع كل مقومات الشخصية الاستعراضية التي تجيد اللعب على أوتار عواطف المسلمين في العالم ، و لم يكن قبل اليوم سرا، أن إيران تسعى للعب دور الزعامة في البلاد الإسلامية إلا أن الذي لم يكن منتظرا أن يختار الرجل هذا التوقيت بالذات لكي يطرح فكرته. إن إيران تعيش حاليا أعصب فترات تاريخها و تواجه بمفردها سيلا من الضغوطات الغربية فيما يتعلق ببرنامجها النووي ، فهي تحاول جاهدة اللعب على ورقة التفاوض و تجيد في هذا المجال دور المحاور الشرس الذي لا يتنازل ببساطة عن مطالبه ، مستغلة في ذلك تشرذم الموقف الغربي ذاته حيال برنامجها ، لأن الأوروبيين الذين ما زالوا لحد الساعة يلعبون دور المتضرر الأول من طموحات طهران هم في الواقع أيضا، المستفيد الأول من بقاء الأمور على حالها ، ما أن لهم رصيدا من العلاقات الاقتصادية معها لا يرغبون في التنازل عنه. هذه واحدة و أما الثانية فتتعلق بالدور الذي يصر الأوروبيون على لعبه في واقع العلاقات الدولية ، و توجههم نحو خلق قطب سياسي عالمي بعد أن نجحوا في التحول إلى قطب اقتصادي في مواجهة القطب الأمريكي ، الذي ما يزال لحد الساعة وحيدا على الساحة الدولية ، بما أن العملاق الأصفر "الصين" ما يزال يفضل مسايرة الأمور ، و عدم التدخل في مسرح السياسة العالمية بكيفية توازي ثقله البشري و الاقتصادي حتى الساعة. وفق هذا يمكننا أن نفهم أن رئيس إيران مطلع بدرجة لا غبار عليها على هذا الواقع ، مما يعني أنه يملك هامش مناورة فسيح جدا ، خصوصا إذا ما لاحظنا أن الولاياتالمتحدة صارت الآن غارقة في الوحل العراقي و لا يبدو أن ورطتها هناك سوف تنفرج قريبا ، وهي في الظرف الحالي، في غنى عن أية أزمات جديدة قد تجعل أقدامها هناك تغوص بشكل لا يمكن بعده الخلاص. إلا أن هذا لا يعني أن إيران هي سيدة الموقف و أنها باتت تملك من الأوراق، ما يتيح لها تلك القوة التي تجعل منها طرفا عالميا يفرض على الآخرين مراعاة مصالحه ، لأن القضية من أساسها هي أزمة بينها و بين دولة الاحتلال في فلسطين. في الأيام القليلة الماضية، أوردت صحيفة الصانداي تايمز البريطانية أن إسرائيل تتأهب لقَنْبَلة إيران في سبيل أن تصدها عن حيازة الأسلحة النووية ، و هذا التطور سوف يكون من غير شك، تحولا كارثيا في كامل منطقة الشرق الأوسط. على حسب الصحيفة: "لقد تلقت القوات المسلحة الإسرائيلية الأوامر من رئيس الوزراء آرئيل شارون لتحضير ضربات محتملة على المواقع السرية التي تستعمل في تخصيب اليورانيوم في إيران، قبل نهاية شهر آذار/مارس القادم". و حتى و إن كانت هذه المعلومات غير أكيدة إلا أن ورودها في جريدة على نفس قدر الصانداي من مصداقية و عراقة يجعلنا نتوقع أن شيئا من هذا النوع، هو فعلا قيد التحضير ، على الرغم من أن تسريبات صحفية كهذه قد تكون مقصودة ، بمعنى أن "الإسرائيليين" يريدون بهذه الطريقة أن يقولوا لباقي المجتمع الدولي أنه ليس في مستطاعهم الصبر و انتظار تحقق نتائج عبر القنوات الدبلوماسية الاعتيادية. إن أغلب المحللين في الغرب يعتقدون أن شهر مارس القادم سوف يمثل فعليا: نقطة اللارجوع ، بمعنى أن إيران سوف تكون بعده قد امتلكت كل معطيات تصنيع القنبلة النووية و لن تكون المسألة بعد ذلك التاريخ إلا مسألة وقت ، و لسنا مضطرين هنا إلى التذكير بأن هذه المعلومات تتسرب بطريقة دورية من أجهزة الاستخبارات الأمريكية و الإسرائيلية ، معطية لهؤلاء المحللين القدرة حتى على تخمين المواقع التي يُشك في أنها تحتوي نشاطات نووية غير معلنة داخل الأراضي الإيرانية. لقد كانت مصادفة غريبة جدا أن تتناول معظم العناوين الصحفية في دولة الاحتلال هذا الخبر الذي جاءت به الصحيفة اللندنية ، لأنها لم تكذب الخبر و لم تشأ الحديث عن تفاصيله ، و إنما اكتفت بالتحاور مع بعض من كبار موظفي الدولة العبرية الذين لم تكن إجاباتهم قاطعة بالشكل الكافي، بما أن المدعو "رعنان غيسين" الناطق باسم رئيس وزراء العدو لم يعلق على القضية سوى بقوله: "إن إسرائيل لن تبادر إلى ضرب إيران قبل استنفاذ كل الطرق الدبلوماسية" بمعنى أن بلاده لا تستبعد هذا الاحتمال و إنما تريد أن تقول أن "معظم" الطرق الدبلوماسية قد أثبتت عدم جدواها. إن الأزمة التي تحيط بملف إيران النووي في الأيام الأخيرة تأتي في الوقت الذي استلم فيه رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية: محمد البرادعي في أوسلو يوم العاشر من الشهر الجاري: جائزة نوبل للسلام لهذا العام لنشاطاته ، في سبيل الحد من الانتشار النووي و هو الذي صرح مؤخرا أنه لا يمكن لأي كان أن يمنع أية دولة من الحصول على السلاح النووي ، لأن الضربات العسكرية سوف تجعل القضية بالنسبة للطرف المضروب قضية ثأر. يبقى لنا القول بأن جهود ثني إيران على طموحاتها النووية في الوقت الحالي تواجه طريقا مسدودا لأنه لم يعلن عن أي تاريخ لاستئناف المباحثات بينها و بين الترويكا الأوروبية زيادة على أن طهران كانت قد رفضت مؤخرا المقترح الروسي الذي يفيد باستعداد موسكو القيام بتخصيب اليورانيوم الإيراني في المفاعلات الروسية و هذا الرفض يرى فيه الملاحظون تطورا مشجعا و مسرعا لأجل نقل الملف إلى مجلس الأمن الدولي من غير أن تقدر روسيا و لا أية دولة أخرى تتعامل معها إيران، على الاعتراض على الرغم من أن موسكو كانت قد أمضت مؤخرا مع طهران عقدا ضخما لتموين هذه الأخيرة بأنظمة للدفاع الجوي ، و هذا لا يجب عزله أيضا عن التصريحات الأخيرة لنجاد و ما قد ينجر عنها ، لأن عددا كبيرا من التقنيين و المهندسين الروس متواجدون حاليا داخل تلك المنشآت الإيرانية ، بمعنى أن موسكو هي الأخرى، سوف تتضرر مباشرة من أي تصعيد. إن حربا من التصريحات و التسريبات الإعلامية المنظمة صارت هي السمة الأبرز في التطورات الميدانية الأخيرة بين طهران و تل أبيب ، و قد يكون من الممكن جدا أنها سوف تمثل الأرضية المواتية لكي تدخل الدولتان في مواجهة عسكرية قد تلهب المنطقة برمتها ، إلا أن الواقع الحالي يعني أيضا أن هنالك مخططات إسرائيلية جاهزة للتعامل مع أي تطور و أن هذه المخططات مشتركة مع الأمريكان لأجل ضرب المراكز النووية في إيران قبل أن تصير "عملية" بمعنى أنه يجري التحضير جديا لأجل تكرار عملية تدمير المفاعل العراقي "تموز" خلال العام 1981 و أن هذه "الأنباء" التي يتداولها الإعلام لم تتسرب إلا لأجل مزيد من الضغط على إيران حتى تعلن صراحة التخلي عن كل نشاطاتها التي لا تعجب الولاياتالمتحدة و ربيبتها في المنطقة. أخيرا، إن إيران ما تزال تحتفظ ببعض من المعطيات التي تقوي موقعها ، لأنه لا ينبغي إغفال أمر أولئك 150 ألف جندي أمريكي في العراق و الذين سوف يصبحون أسارى أي تصعيد يجعلهم تحت رحمة القصف الإيراني أو حتى لجوء هذه الأخيرة إلى تحريك حلفائها هناك زيادة على أنها تمتلك صواريخ في استطاعتها أن تضرب عمق العدو الإسرائيلي نفسه ، فضلا على أن أصدقاءها في لبنان و سورية لن يقفوا مكتوفي الأيدي بكل تأكيد ، بمعنى أن المغامرة الإسرائيلية لن تكون بالضرورة مأمونة العواقب لأنها سوف تهدد كل العالم ، بما أنه لن يكون في مقدور أي كان بعدها أن يضمن استمرار تدفق النفط من منطقة تقف أصلا فوق برميل من البارود. المصدر: الاسلام اليوم