انتشرت بين الإسلاميين فكرة خاطئة ظالمة، ظلمت كثيرين من أعلام الإسلام المعاصرين، وهي: عدم الحديث عن مآثر العلماء وفضائلهم وهم أحياء. ومنشأ هذه الفكرة الخاطئة: فهم بعض المتدينين الخاطئ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المدح في الوجه، وأمره بحثي التراب في وجوه المدَّاحين. فنتج عن هذا أن ظُلِمَ هؤلاء الأعلام وهم أحياء، فنتركهم مهملين تماما إلى أن يصلوا إلى سن الشيخوخة، أو إلى أن يموتوا لتنهال الكتابة عنهم والرثاءات والدموع، مذكرين الناس بصفات المرحوم العالم فلان، الذي للأسف مات ولم تنتبه الأمة لقيمته العلمية النادرة، وإن تنبهنا إلى ذلك نتنبه بعد وصول العالم إلى سن يصعب فيه الاستفادة من علمه وخبرته، فالشيخ الشعراوي مثلا، لم ننتبه إلى نبوغه ومكانته في تفسيره للقرآن الكريم، إلا بعد أن وصل إلى سن الستين وزيادة، في منتصف السبيعنيات، ولو أن الرجل مات في سن الوفاة الطبيعي لكثير من أبناء جيله، لما سمع به أحد، ولمات وماتت معه كنوزه العلمية، وتأملاته الرائعة في كتاب الله، وغيره كثير من العلماء لا مجال لحصرهم الآن. بينما يقوم الشيوعيون والعلمانيون بتمجيد بعضهم بعضا، وإحاطة رموزهم بهالة من التعظيم والتوقير، وإسباغ الألقاب العلمية الكبيرة عليهم دون وجه حق، وصنع فقاقيع في مجال العلم والفكر من لا شيء، وصنع أجيال من خلفهم! بينما يعيش الإسلاميون بين لونين من الثقافة أسميه: ثقافة (المِش) وثقافة (البطاطا)، فالمصريون في الريف المصري، يحبون أكل الجبن القديم بالمش، وطالما الجبن لم تقدم، ولم يمر عليها سنوات، نظل مهملين لها، تاركين (زلعة المش) فوق سطح البيت إلى سنين طويلة، وإذا أخبرنا أحدا أنه مش قديم، أكله الناس بنهم، وفرح، فعشنا بهذه الثقافة، (ثقافة المش) لا بد أن يعفى الزمن على العالم أو الرمز حتى تنتبه له الامة. وعشنا بين ثقافة البطاطا أيضا، فنبات البطاطا، نبات لا تبدو ثمرته ولا تنضح إلا تحت تربة الارض، وهو لون من الثقافة تعاملنا به أيضا مع رموزنا ونوابغنا، أنه لا بد من الخفاء في العمل، حتى لا نتهم بالرياء، ورفعنا شعار (ثقافة البطاطا) أو عملا بمبدأ وقول ابن عطاء الله السكندري: ادفن نفسك في أرض الخمول، فما نبت لا يرجى صلاحه!! والذين قالوا بمنع تكريم الأحياء، وذكر مآثرهم، إنما استندوا إلى أحاديث النهي عن المدح في الوجه، ناسين أن هذا النهي لعلة وهي: عدم المدح بغير حق، أو إذا خيف على الممدوح أن يعجب بنفسه ويغتر، وهم في ذلك نظروا إلى القضية من جهة واحدة، ولم ينظروا إليها من جميع جهاتها. والسنة النبوية حافلة بعدد غير قليل بأحاديث مدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا في وجوههم، وذكر مآثرهم وهم على قيد الحياة، ومن ذلك قوله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: " نعم العبد ابن عمر لو يقيم الليل " وقوله لأبي موسى الأشعري: " لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود " فهذا مدح لابن عمر، ومدح لأبي موسى في حسن تلاوته وجمال صوته. ومنها قول رسول الله لسيدنا سعد بن أبي وقاص: ارم سعد فداك أبي وأمي. وقوله عنه: هذا خالي فليرني أحدكم خاله. وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه (في وجهه) قائلا: إن فيك لخصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. بل إن الإمام العيني أخذ في شرحه لصحيح البخاري من حديث ضرب الجواري للدف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن يندبن من قتل من آباء السيدة الربيع بنت معوذ بن عفراء في بدر، جواز مدح الرجل في وجهه بما فيه والمكروه من ذلك مدحه بما ليس فيه. ها هي السنة النبوية بما فيها من بعض نصوصها تنزل الناس منازلهم، وتعطيهم ما يستحقون من ثناء، ما دام الكلام ليس فيه وصف للإنسان بما ليس فيه. ولقد كلفنا هذا الفهم الخاطئ أن مات عدد غفير من علماء الأمة دون أن ينصفهم الباحثون برسالة علمية، أو ببحث أو مقالة تبين قيمتهم العلمية، عَلَّ الباحثين وطلبة العلم أن ينتفعوا بعلمهم، فهل نستدرك ما وقعنا فيه من خطأ فيما بقي من علمائنا على قيد الحياة، هذا ما نتمناه، نتمنى أن ينتهي العقوق من الشباب للرموز، والقضية ذات شقين: عقوق من جهتين: عقوق من جهة الشباب، بإهمال الرموز، وعقوق من جهة الرموز من جهة عدم تكون أجيال بعدهم تحمل الرسالة، وقد تكلمت عن العقوق الأول، وبقي عقوق الرموز للأمة أبينه في مقال تال إن شاء الله. [email protected]