■ أكثر جملة تقال فى شوارع مصر ومقاهيها ومكاتبها وبيوتها وصحفها وشاشاتها الآن.. وبالتأكيد تستفزك للغاية وتثير ما بداخلك من غضب وحزن واستهجان وأسى.. هى أن تجد أحدهم يقول لك: يا ليت مصر كانت هناك الآن فى جنوب أفريقيا بعدما شاهدنا كلنا المستوى المتواضع للمونديال وغالبية المنتخبات.. فهى جملة بلا أى معنى أو قيمة على الإطلاق.. أو هى جملة، على قدر زيفها وسذاجتها، تختصر كثيرا من أسباب أزماتنا المصرية الحقيقية، سواء فى الرياضة أو بعيدا عن الرياضة.. وأهم سبب على الإطلاق هو أننا لم نعرف حتى الآن لماذا فشلنا فى سباق استضافة هذا المونديال منذ ستة أعوام.. ولماذا فشلنا فى التأهل لهذا المونديال العام الماضى.. مع أنه كان من الضرورى أن نعرف ونتناقش كلنا بهدوء ووضوح وشفافية ونعرف بالضبط وعلى وجه الدقة ماذا جرى.. سواء فى قاعة التصويت داخل مؤسسة الفيفا.. أو داخل ملعب الكرة فى أم درمان.. وكنت لا أزال أتخيل أن هوسنا وجنوننا وانشغالنا بالمونديال الدائر الآن فى جنوب أفريقيا.. سيجعلنا نفتح كل دفاترنا القديمة ونبدأ فى المراجعة والتساؤل والحساب.. وأرجو ألا يتخيل أى أحد أننى من السذاجة أو الغفلة بما يجعلنى أكتب ذلك الآن متخيلا أن الحساب الذى أنشده هو أن نجلد الدكتور على الدين هلال، وزير الشباب وقتها، أو محمد السياجى، رئيس لجنة الملف المصرى، أو هشام عزمى.. أو نجلد حسن شحاتة ومساعديه ونجوم ولاعبى المنتخب القومى الذين عجزوا عن الفوز على الجزائر.. أبدا.. ليس هذا ما يدور ببالى مطلقا.. وإنما أريد فعلا مراجعة وحسابا بمعنى أن نفهم أو نتعلم.. وإذا كان العرب فى الجاهلية والأوروبيون فى العصور الوسطى قد استراحوا لفكرة ألا تتم محاسبة الكبار والوجهاء لأن القانون لا يليق تطبيقه إلا على الضعفاء والعاجزين والمهزومين.. فإن المصريين فى القرن الحادى والعشرين ابتكروا أسلوبا أفضل.. أكثر عدالة وأكثر إنسانية أيضا.. وهو ألا تتم محاسبة أو محاكمة أى أحد أصلا سواء كان كبيرا أو صغيرا.. صاحب منصب أو صاحب مال أو صاحب لسان أو قلم أو برنامج أو أسرار تخص الآخرين وتفضحهم.. ولابد أن يتغير ذلك كله الآن.. لا نريد أولئك الذين عاشوا فى الوهم وأرادونا معهم فقالوا إن صفر المونديال سببه أننا كنا ضحية مؤامرة أو لأننا رفضنا أن يأتينا المونديال عن طريق الرشوة والمال الحرام.. وأن خروجنا من تصفيات المونديال كان نتيجة ما جرى من بعض الجماهير الجزائرية فى شوارع الخرطوم بعد انتهاء المباراة بالفعل فى أم درمان.. وإنما نريد أن نعرف هل كنا على صواب أصلا حين فكرنا فى استضافة هذا المونديال أم أننا جرينا وراء هذا الحلم وبعناه للناس دون أى تدقيق أو دراسة؟.. كم أنفقنا على هذا الوهم ومن كان صاحب القرار ولماذا غاب كل الذين يمكن أن يستشرفوا المستقبل بواقعية وأمانة فيطالبوا بالكف عن هذا العبث والخروج من هذا السباق الخاسر قبل أن يصدمنا الصفر بحقيقتنا ووزننا وهواننا على الفيفا والناس والعالم كله؟.. هل نملك ثمانية ملاعب تليق بالمونديال.. وهل تسكن هذه الملاعب فى مدن تملك الفنادق والمطارات والمواصلات ووسائل الحياة وكل مستلزماتها.. وهل لدينا أصلا استراتيجية رياضية عليا للبنية الأساسية بحيث تحدد لنا مكان وجدوى ومواصفات أى ملعب جديد سواء كانت تبنيه القوات المسلحة أو وزارة البترول أو حتى الأهلى والزمالك.. وهل بلغنا من النضج درجة مصارحة أنفسنا بأن استاد القاهرة.. بعدما شاهدنا ملاعب جنوب أفريقيا وملفات الدول الراغبة فى استضافة المونديال ومن بينها قطر.. لم يعد صالحا إلا للذكريات والمباريات المحلية.. وهو ما يعنى أصلا عدم الالتفات لملاعب أخرى فى الجبل الأخضر وبورسعيد والإسماعيلية والسويس.. وهل نحن لدينا استعداد أصلا لتوسيع خريطة الرياضة المصرية بمنشآتها وبنيتها الأساسية خارج القاهرة والإسكندرية.. وهل تغيرنا فى أى شىء بعد صفر المونديال.. هل فكرنا فى أن نقارن بيننا وبين جنوب أفريقيا باعتبار أننا كنا ننافسها على استضافة هذا المونديال.. ثم هل عرفنا فى أى وقت مضى لماذا خرجنا من التصفيات فى النهاية.. هل هناك أى تقرير فنى حقيقى يحدد الأخطاء التى وقعت وكيف يمكن تلافيها مستقبلا.. أم أنه أعجبتنا جدا حكاية نواحنا وصرخاتنا كل أربع سنوات لأننا لم نتأهل للمونديال؟.. أما الجملة المستفزة التى تقال فى كل مكان الآن بشأن الافتراض الساذج بمشاركة مصر فى المونديال الحالى وفقا لما نشاهد هناك فى الملاعب.. فأنا أقول لأصحابها.. لماذا افترضتم أن إسبانيا القوية لم تنجح فى الاحتفاظ بقوتها.. وإيطاليا فقدت ترابطها.. والبرازيل أدركها الملل.. وإنجلترا خسرت رهاناتها.. والبرتغال أحرقت نجومها.. بينما مصر ستذهب إلى جنوب أفريقيا دون أن يتغير فيها أى شىء.. ما كل هذه الثقة التى تتحدثون بها وكأن كل نجوم العالم ممكن أن يتراجع مستواهم إلا نجومنا.. كل مدربى العالم ممكن أن يخفقوا إلا حسن شحاتة.. كل اتحادات الكرة ممكن أن تخطئ فى الحساب والتقدير إلا الاتحاد المصرى لكرة القدم. ■ ليس لنا منتخب مصرى يشارك فى المونديال الدائر الآن فى جنوب أفريقيا.. لكن تملك أوروبا اثنى عشر منتخباً تخضع بلدانها لمظلة وسلطات وقوانين ودستور ونظام الاتحاد الأوروبى.. ورغم ذلك انشغلنا هنا فى مصر بالمونديال لدرجة أننا قررنا تأجيل كل شىء إلى ما بعد المونديال حتى لو كانت قضايا مهمة وملحة وملفات مقلقة وموجعة.. بينما اجتمع الاتحاد الأوروبى.. الكيان السياسى والاقتصادى الضخم.. هذا الأسبوع لمناقشة تقرير رسمى بشأن المخاطر التى تهدد الرياضة الأوروبية.. من تنظيم انتقالات اللاعبين بين مختلف الأندية وعدم السماح للوكلاء وسماسرة الكرة بالاتجار فى الاطفال واللاعبين صغار السن.. غسيل الأموال والفساد والمراهنات.. أثر التكنولوجيا الحديثة ودورها فى تغييب العدالة فى المنافسات والمسابقات الرياضية.. اقتصاديات الكرة وديون الأندية وشبح الإفلاس الذى يطاردها.. وهذه الورقة الأخيرة تحديدا هى ما أود مناقشته.. فالاتحاد الأوروبى لم يشغله كأس العالم عن مناقشة مستقبل الرياضة ومستقبل أندية كرة القدم فى القارة العجوز.. بينما لا الاتحاد المصرى للكرة برئاسة سمير زاهر.. ولا المجلس القومى للرياضة برئاسة حسن صقر.. أو لجنة الشباب بالبرلمان برئاسة سيد جوهر.. اهتموا بمستقبل الأندية المصرية التى توشك على الإفلاس أو أفلست بالفعل وتنتظر فقط شجاعة إعلان ذلك.. لماذا؟ لأننا، أولا، لا نحب مثل هذا النوع من القضايا ثقيلة الدم.. ولأننا، ثانيا، لا نرى لنا أى علاقة بمثل هذه الأمور.. فهى قضاء الله وقدره ونحن مؤمنون بالله وبأن أحدا منا لا يملك حق الاعتراض على قضاء الله أو تغييره.. ثم إن هناك سبباً أهم.. المونديال.. ففى إعلامنا كله.. لا صوت يعلو على صوت المونديال.. ولا حديث إلا عن المونديال.. شاشاتنا وصحافتنا جعلت خسارة إسبانيا أمام سويسرا قضية قومية، ومارادونا أزمة قومية، وانتصار ألمانيا فرحة قومية.. ومن قبيل المفارقات أن الصحافة المصرية طيلة الأيام الماضية كتبت عن المونديال الذى لا تشارك فيه مصر أكثر مما كتبته صحف إنجلترا أو فرنسا أو إسبانيا أو هولندا عن المونديال نفسه الذى تشارك فيه منتخباتها.. ولا تصدقوا من يقول لكم إنها اهتمامات الناس فى مصر.. أو إنها سطوة الإعلانات وقسوتها وشروطها.. إنما هو مجتمع فى معظمه يعشق الهرب من واقعه ومن أزماته ومن نفسه أيضا.. وقد كنت ولا أزال أتمنى لو كان هناك ملحق واحد على الأقل من كل هذه الملاحق المونديالية التى لا أول لها ولا آخر عن أنديتنا الشعبية التى تتهاوى.. عن دمياط التى باتت تصرخ بعد أن هبطت كل أنديتها الكروية إلى الدرجة الثالثة.. عن الفيوم التى تصرخ أنديتها من الفساد.. عن الشرقية التى تموت فيها الأندية رغم الشعبية الكبيرة.. عن المحلة التى باتت بلا تمثيل فى الممتاز.. عن محافظات الصعيد التى باتت لا تعرف إلا أندية الشركات التى لا يشجعها ولا يريدها أحد.. والأخطر من ذلك أنه لا أحد مهتم بالمهلة التى منحها الفيفا لكل بلدان العالم حتى نهاية الموسم الكروى المقبل لتغيير نظم وهوية أنديتها إلى شركات مساهمة وإلا سيتم طردها من البطولات القارية للأندية.. وهو ما يعنى أن أمامنا عاماً واحداً فقط أو أقل وسنجد الأهلى والزمالك والإسماعيلى وبقية الأندية المصرية خارج دورى الأبطال الأفريقى والكونفيدرالية لأنها أندية هواة انتهى زمانها ولم تعد صالحة للاستخدام الكروى.. وأسعار اللاعبين التى باتت تفوق قدرة أى ناد فى مصر بما فيها الأهلى والزمالك رغم مكابرة وعناد مسؤولى الناديين.. والشركات والوزارات التى باتت مهددة بالخروج من اللعبة أصلا لأن أسعار اللاعبين وأجورهم وفواتير المشاركة والبقاء باتت تفوق زعم أى وزارة أو هيئة بأنها تنفق على سبيل الدعاية أو من باب الواجب القومى للإسهام فى تطوير الكرة المصرية.. وجرأة أى وزير أو رئيس مجلس إدارة للاستمرار فى مثل هذا الإنفاق الزائد على الحد والضرورة والتبرير.. وألف قضية أخرى تم تأجيل مناقشتها قبل انطلاق الموسم الجديد لأننا مشغولون بالمونديال.. لأننا كلنا رفعنا شعار: «يحيا المونديال وتسقط الرياضة والأندية المصرية». ■ وفق سياسة الانتقاء والهوى التى لا يجيدها أحد فى العالم قدرنا، نحن المصريين، أن نجد صحافتنا النشيطة فى اهتمامها ومتابعتها للمونديال تغفل ما هو ضرورى وصالح لنا، وتروح تجرى وراء أخبار الغرام والفضائح والفوفوزيلا وخناقات المدربين العالميين وتبادلهم الاتهامات والسخرية.. فلم نهتم بالشكل الكافى، على سبيل المثال، بالأزمة الكروية السياسية فى إيطاليا حاملة لقب المونديال حين طالب روبرتو كالديرولى، وزير الشؤون التشريعية، لاعبى منتخب إيطاليا بالموافقة على تخفيض قيمة مكافآتهم فى حال فوزهم بكأس العالم أو أحد المراكز المتقدمة، وذلك إسهاما منهم فى مساندة إيطاليا لتجاوز أزمتها المالية والاقتصادية.. وعلى الرغم من أن إيطاليا بمستواها الحالى قد لا تكون مؤهلة لا للكأس ولا حتى للدور قبل النهائى.. فإن لاعبى المنتخب لم يؤثروا السكوت.. فقال حارس المرمى الشهير بوفون إنه ليس على استعداد للتنازل عن يورو واحد من مكافآته قبل أن يعرف على وجه الدقة أين ولمن سيذهب هذا اليورو.. قال بوفون أيضا إنه ليس مقتنعا بما يقوله السياسيون حين يبدأون الحديث عن الأزمات الاقتصادية فى البلاد وضرورة ترشيد النفقات، لأنه يرى هؤلاء السياسيين هم آخر من يمتثل لهذا التقشف وآخر من يستجيب لمثل هذه الدعاوى.. وبالتالى ليس مطلوبا من لاعبى الكرة التضحية التى أبدا لن يقوم بها السياسيون فى بلاده.. ومن ناحية أخرى لم يهتم الإعلام المصرى أيضا بنقل اهتمام الشعوب الأوروبية والأمريكية والآسيوية بالكرة ومبارياتها وانتصاراتها وتقديم ذلك بوضوح وإفراط وتمهل وذلك للرد على المثقفين فى بلادنا الذين يتأففون دائما ضيقا وقرفا من اهتمام المصريين بالكرة ومنتخب بلادهم أو أنديتهم الكبيرة.. مثقفون وكتاب يسخرون من ذلك وينشطون فى تصوير المصريين باعتبارهم أمة فقدت عقلها ووضعت كرة قدم مكان العقل.. وينشط بعض هؤلاء ليستخرجوا من الدفاتر القديمة نظريات وتحليلات يطرحونها من جديد دون أى اعتبار للناس التى تغيرت وباتت تقرأ وتفكر وتفهم.. كأن يقول هؤلاء المثقفون إن الاهتمام بالكرة فى مصر دليل على تغييب الشعب سياسيا.. فالأوروبيون يهتمون بالكرة وليس لديهم أى تغييب سياسى.. أو يقولون إن المصريين يهتمون بالكرة لأنه ليست لديهم أحزاب حقيقية.. بينما الأوروبيون يمارسون الحياة الحزبية كاملة ورغم ذلك يقضون الساعات الطويلة فى الشوارع لممارسة الفرحة بانتصارات كرة القدم.. بل إن كرة القدم نجحت الأسبوع الماضى فى حشد أربعة عشر مليون أمريكى لمتابعة مباراة الولاياتالمتحدةوإنجلترا، وأن يقف الأمريكيون يمارسون الفرحة وجنون الكرة لأول مرة فى تاريخهم فى التايم سكوير فى مانهاتن فى قلب نيويورك، ليصبح ذلك مشهدا استثنائيا وتاريخيا انتصرت فيه الكرة فى الولاياتالمتحدة على السينما والمسرح والعروض الراقصة سواء كانت فنية أو سياسية. [email protected]