وسط زحام ميدان المؤسسة بشبرا الخيمة، أسفل كوبرى المشاة تفترش «أم محمد» الأرض وحولها بناتها الست. الحياة بالنسبة لأم محمد وأسرتها مجرد «صدفة» ألقت بالعائلة الكبيرة نسبيا فى الشارع، وجعلت المهنة الوحيدة المتاحة «بيع المناديل». أربعون عاما مرسومة على ملامح أم محمد، أنجبت 15 طفلا منهم 8 بنات و3 بنين، بينما وافت المنية 4 آخرين وهم لا يزالون «حتة لحمة حمرا». فى البداية تزوجت أم محمد من شاب عاطل عن العمل، كانت وقتها فى الرابعة عشرة من العمر، حاولت «الصبية» أن تفعل ما بوسعها لتسد رمق أسرة يتزايد عدد أفرادها يوما بعد يوم «كنت عيّلة صغيرة، جوزونى بسرعة من واحد، الله يسامحه بقى، خلفت منه 9 عيال، سجل 8 منهم باسمه ورفض يسجل آخرهم على اسمه.. وقتها كان دخل السجن وطلقنى». طافت أم محمد على مكاتب الصحة، لكن القانون يمنع تسجيل الولد إلا بحضور والده أو أحد الأقرباء من جهة الوالد للإقرار بصحة النسب «غلبت وما بقيتش عارفه أعمل إيه، فى الآخر سيبت الواد لواحدة أعرفها بتقعد على الرصيف اللى قدام الكوبرى ده». جاء تنازل أم محمد عن وليدها بعد أن فشلت فى استخراج شهادة ميلاد أو حتى بطاقة صحية للطفل، أما المرأة الأخرى فقد سجلت الطفل باسم زوجها. لم يكن «أحمد» كما طلبت أم محمد من صديقتها أن تسميه يشكل عبئا على حياتها أو يرهقها ماديا خاصة أنه تربى فى الشارع. تزوجت أم محمد للمرة الثانية، كانت تبحث عن رجل يؤمّن حياتها ومن تبقى معها من بناتها، لكن الرياح لم تأت بما تشتهى سفن أم محمد «قعد هو راخر فى البيت وبقيت اضطر اطلع أنا والبنات نبيع مناديل تحت الكوبرى وهو بيستحل شقانا وعرقنا». لم تنس أم محمد ولدها المسجل باسم رجل ليس أبيه «قلبى بيحرقنى كل ما أشوف أحمد بينادى (يا أمى) لست تانية.. فراق الضنا غالى، وأنا خلاص صابنى الضغط من كتر الحزن على الواد.. 3 سنين كاملين بشوفه بينادى واحدة غيرى يا أمى» الأم الجديدة بائعة السجاير والمناديل وبعد أن سجلت الطفل باسمها منعت الأم الحقيقية من مجرد الاقتراب من الطفل. فى «شغلانة تحت الكوبرى» عملت أم محمد وبناتها، حتى الطفلة الصغيرة «منة» التى تجاوزت العامين بالكاد تحاول أن تساعد أمها فى البيع. تحكى أم محمد عن حياتها «أنا من القناطر الخيرية وباجى هنا المؤسسة كل يوم الساعة 6 صباحا مع بناتى، وبنحاول نجيب لقمة عيش نسند بيها جوعنا، نبيع مناديل وولاعات وحاجات زى دى سواء تحت الكوبرى أو فى الإشارة، والشغل يفضل ماشى لحد 12 ليلا ساعتها بنرجع». حملات الشرطة هى أكثر ما يقلق أم محمد وبناتها «الشرطة لما بتييجى ما بترحمش حد، واللى بيتمسك بيتبهدل.. وأول ما تظهر عربية الشرطة بنلم الفرشة وساعات بنرجع القناطر تانى». تجارب أم محمد مع حملات الشرطة علمتها الكثير، خاصة بعد أن قضت وبناتها ليلتين داخل قسم أول شبرا الخيمة، وحاليا يقف أحد أبنائها قريبا من نقطة الشرطة، ومهمته «ناضورجى» يبلغ الأم وبناتها عن أى تحرك للحملات قبل وقوعها. لا يشغل بال أم محمد فى الوقت الحالى سوى زواج بناتها « نفسى كل واحدة منهم تلاقى نصيبها وتترحم من بهدلة الشارع.. وأنا بحاول على قد ما أقدر أحافظ عليهم من العيال اللى هنا لأن حوادث الاغتصاب منتشرة أوى خاصة فى الموقف، وكتير بنشوف بنات متبهدلين وبنستر عليهم وبنشترلهم هدوم جديدة بدل اللى قطعوها الشباب.. كل اللى نفسى فيه الستر.. بدور عليه من سنين ليا ولبناتى». 10 سنوات قضتها أم محمد فى ميدان المؤسسة، بحثا عن «لقمة عيش» تبدو دائما بعيدة المنال، 10 سنوات جمعت فيها دور الأب الساعى على رزق أطفاله، والأم التى تحمى بناتها، والبائعة التى تمرست فى السوق.. فى ميدان المؤسسة تعيش أم محمد باعتبارها أما للجميع «كلهم عارفين ظروفى.. وكتير منهم بيقّدر الشقا اللى شايفاه».