لم أتردد يوماً ما فى أن إشعال وقود الاحتكاكات الطائفية أخطر ما يمكن أن يزهق وحدة الأمة، وأن يحشو ضمائر أفرادها وفئاتها بدخان الضغينة والأحقاد. ولربما كان علىّ أن أوضح المعنى المراد ب(الاحتكاكات الطائفية) قبل أن أمضى فى بيان هذا الخطر، الذى يجب أن نكون جميعاً على بيّنة منه.. إن المراد به تسليط مشاعر العصبية الدينية أداة انتقاص، ومن ثم سلاح هجوم على ذوى المذاهب والانتماءات الدينية الأخرى. وكلمة (العصبية) تعنى الاستجابة لحظ النفس، بدلاً من الانقياد لحكم العقل وضوابطه. إن استخدام العصبية الدينية أداةً فى هذا المضمار شىء يحذّر منه الدين وديّانه قبل كل شىء. فهو فى حقيقته خروج على الدين ذاته، وإن بدا لدى النظرة السطحية أنه خدمة للدين ودفاع عنه.. وهذا التحذير هو المراد بالاستثناء فى قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن)، وهو المراد بما أملاه القرآن على الرسول، فى مجال محاورته مع أهل الكتاب، بأن يقول لهم: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين) وبأن يقول لهم: (..إن كان للرحمن ولدُُ فأنا أول العابدين)، أى سأسبقكم عندئذ إلى عبادته. ثم إن العقيدة الإسلامية بحدّ ذاتها، لا تترك فى نفس المسلم ثغرة تتدخل منها مشاعر العصبية الدينية ضد أهل الكتاب. إذ إن الإسلام ليس ديناً سماوياً يقارع أو ينافس ديناً سماوياً آخر، وإنما هو الدين الجامع الذى يحتضن ضرورة الإيمان بنبوة سائر الرسل والأنبياء الذين خلوا من قبل، ويتبنّى ضرورة الإيمان بكل ما بُعثوا به من صحف وكتب، وفى مقدمتها الإيمان بنبوة ورسالة كل من سيدنا موسى وسيدنا عيسى، عليهما الصلاة والسلام، وبما بُعث به كل منهما، بل إن الإيمان بالقرآن لا يتم إلا بالإيمان بذلك كله. وانطلاقاً من هذا اليقين الإيمانى، الذى يجب أن يصطبغ به كل مسلم صادق وعى حقيقة إسلامه، يتبين لنا المنهج الذى ينبغى أن ينضبط به كل من ألزم نفسه بواجب التعريف بالإسلام والدعوة إليه. إنه المنهج الذى بصّرنا به كتاب الله عز وجل، وسار عليه محمد، صلى الله عليه وسلم، من استثارة العقل الإنسانى للوقوف على الدلائل، التى تدعو إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجزاء الذى أعده الله للمصلحين والمفسدين من عباده، دون أى تجريح أو تسفيه لمن قادته العصبية إلى الإعراض، وإلى إيثار ما درج عليه الآباء والأجداد.. وإن فى الطريقة المثلى التى استقبل بها رسول الله وفد نصارى نجران وأنزلهم ضيوفاً فى مسجده، لتجسيداً لهذا المنهج القرآنى، ونموذجاً أخلاقياً رائعاً، يدعو المسلمين جميعاً إلى اتباعه والاقتداء به فى ذلك، فى كل زمان ومكان. وانضباطاً بهذا المنهج القرآنى والنبوى الأمثل، كان المسلمون، ولايزالون إلى اليوم، يحصرون نشاطاتهم الدعوية فى مجال التعريف بالإسلام والدعوة إليه، ضمن دائرة لا يتجاوزونها، هى الكشف عن حقيقة الإسلام ممثلاً فى عقائده وشرائعه وأخلاقه، سواء تم ذلك فى ندوات أو مؤتمرات أو محاضرات، أو جندت لذلك أقنية تليفزيونية أو إذاعات مسموعة. أجل، فأنا لا أعلم أن فى المسلمين من سخّروا منابر الدعوة إلى الإسلام، أياً كان نوع هذه المنابر، لتسفيه أفكار الكتابيين والنيل من عقائدهم ووضع إنجيلهم تحت مجهر الهجوم والنقد، ورسم الخطط المصطنعة لإلجاء النصارى إلى الافتتان عن نصرانيتهم، أو لإلجاء اليهود إلى الافتتان عن يهوديتهم. نعم، إننى لا أعلم إلى هذه الساعة أن فى المسلمين فى عصرنا هذا أو من قبل، من سخّروا أجهزة الدعوة، على اختلافها، لشىء من هذا القبيل، وكيف يتأتى لهم التورط فى هذا الجنوح، وهم جميعاً مشبعون بالقاعدة الشرعية القائلة: (ألا لا يُفْتَتَنَّ نصرانى عن نصرانيته، ولا يهودى عن يهوديته). وبالجملة، فإن تاريخ الأنشطة الإسلامية الدعوية، لم تمارَس فيه يوماً ما الأعمالُ التبشيرية على النحو الذى هو معروف اليوم، بل لقد كان التبشير، ولا يزال، بأبعاده ومضامينه المعروفة وميزانياته الكبيرة المذهلة، وبما يبثه من هجوم مقذع ونقد لاذع، من مزايا الأنشطة المسيحية اليوم وقبل اليوم، ومن خصائصها التى لا تحسد عليها. إن المسلمين على الرغم من أنهم يملكون من الوسائل العلمية والفكرية التى يحصّنون بها عقائدهم، ما لا يملكه الآخرون، فإن إسلامهم يمنعهم من أن يتخذوا براهينهم العلمية والمنطقية أسلحة يقارعون بها ما هو معروف من أسلحة التبشير مما لا نريد الخوض فيه. إن قرآننا لا يسمح لنا، فى كل الأحوال، أن نقابل السوء بمثله. ولذا فلسوف نظل نأخذ أنفسنا بقانونه الأخلاقى القائل: (ألا لا يُفْتَتَنَّ نصرانى عن نصرانيته، ولا يهودى عن يهوديته)، ولسوف يظل شعارنا الذى لن نتخلى عنه الميثاق الذى أجمع ووقّع عليه أكثر من ثلاثمائة عالم من كبار علماء المسلمين، والمتضمن المناداة بضرورة حب الجار والتلاقى مع أهل الكتاب على كلمة سواء، الذى نال موافقة أكثر من ثلاثمائة شخصية أمريكية بارزة من قادة الطائفة الإنجيلية، فى رسالة مفتوحة نشرت فى صحيفة نيويورك تايمز فى غضون شهر نوفمبر من عام 2007. إننا بهذه الاستجابة لما يأمرنا به قرآننا المنزّل من عند الله، نغلق باب التطرف والإرهاب فى وجوه الوالجين إليه، ونغرس فى أفئدتهم زهور الود ورياحين التواصل والقربى بدلاً مما قد يتسرب إليها من مشاعر الضغينة والبغضاء. ولكن أليس عجيباً أن يلحّ أولئك الذين يطلقون زفرات أحقادهم علينا، نحن المسلمين، من خلال كاميراتهم المصوِّرة وضمن جدرانهم الأربعة، على فتح أبواب التطرف والإرهاب المشرعة إليهم، فى الوقت الذى نسعى فيه نحن إلى سدها فى وجه من يريدون اقتحامها إليهم؟ أليس عجيباً أن ننسج بأخلاقنا التى يوصينا بها قرآننا حصن الوقاية لهم ضد المشاعر المهتاجة، ثم ننظر وإذا بهم يمزقون النسيج كله، ويهدمون الحصن من سائر أطرافه، مؤثرين شراء الإرهاب بلواعج الضغائن والأحقاد. إذن، من هم الذين يصنعون الإرهاب ثم يصدّرونه إلى أنفسهم وإلى إخوانهم؟ أليسوا أولئك القابعين فى أوكارهم فى قبرص ونحوها، المنفّسين عن أحقادهم بالهجوم على كتاب الله وبتكذيب رسول الله؟ أما نحن المسلمين الذين أكرمهم الله بالإخلاص لدينه وصدق العبودية لذاته، فلسوف نظل عند قول الله تعالى: (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتى هى أحسن). لسوف نحرس مواقع الحاقدين ضد الإرهاب الذى يصنعونه، ونرد عنها غائلة الساخطين لدينهم والمتطرفين فى سلوكهم، سنقوم بهذا المبدأ الأخلاقى الذى يدعونا إليه كتاب الله، والذى أخذ علينا به الميثاق الذى قبلناه ووقّعنا عليه، ما وسعنا ذلك. فإن أفلت الأمر من اليد فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * الكاتب مفكر إسلامى سورى وعضو المجمع الملكى لبحوث الحضارة الإسلامية فى الأردن