موعد تنسيق الثانوية الأزهرية 2025.. مؤشرات كليات جامعة الأزهر 2024    المسلماني: الرئيس لا يريد شعبًا مغيبًا وجاهلًا (فيديو)    «لا يجب التنكيل بالمخطئين».. المسلماني: الرئيس طلب الاستعانة بكل الكوادر الإعلامية    رئيس الأعلى للإعلام: الرئيس السيسي أكد على ضرورة إعلاء حرية التعبير    سعر الدولار اليوم أمام الجنيه والعملات الأخرى ببداية تعاملات الإثنين 11 أغسطس 2025    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 11 أغسطس 2025    عيار 21 الآن في الصاغة.. سعر الذهب اليوم الإثنين 11 أغسطس بعد الزيادة الأخيرة (تفاصيل)    "تضامن سوهاج" تكرم 47 رائدة اجتماعية وتمنحهن شهادات تقدير    94 % صافي تعاملات المصريين بالبورصة خلال تداولات جلسة بداية الأسبوع    رئيس مياه سوهاج يتفقد المحطات ويؤكد على أهمية مطابقتها للمواصفات القياسية    أول تعليق من وائل الدحدوح على استشهاد الصحفيين أنس الشريف ومحمد قريقع    استشهاد الصحفي أنس الشريف بقصف إسرائيلي في غزة.. هذا آخر ما كتبه على «فيسبوك»    زلزال بقوة 6.19 درجة يضرب تركيا    دبلوماسية أوروبية: أي اتفاق بين أمريكا وروسيا يجب أن يشمل أوكرانيا والاتحاد الأوروبي    موظفو طيران في بروكسل يطالبون بعدم استئناف الرحلات لإسرائيل    نتنياهو: إسرائيل ألحقت ضررًا جسيمًا بإيران سيستمر تأثيره لسنوات    أوصيكم بقرة عيني وبفلسطين وأهلها، رسالة مؤثرة للصحفي أنس الشريف قبل استشهاده    جيش الاحتلال الإسرائيلي يتبنى اغتيال الصحفي أنس الشريف    برشلونة يكتسح كومو بخماسية ويتوج بكأس خوان جامبر    هاني رمزي يكشف أسباب خسارة الأهلي من مودرن.. وينتقد ثنائي الأحمر    خالد الغندور: التوأم يوصي فتوح بالالتزام للمشاركة مع الزمالك    «تحت الصفر».. نجم الزمالك السابق يهاجم أفشة بتصريحات نارية    ثنائي المصري أحمد وهب وأحمد شرف ضمن قائمة منتخب الشباب استعدادًا لمباراتي المغرب الوديتين    حسام حسن يطلب ضم ثنائي الأهلي لمعسكر منتخب مصر في سبتمبر    كاف يعلن جدول مباريات مسار في بطولة شمال إفريقيا للسيدات المؤهلة لدوري أبطال إفريقيا    اتحاد الكرة الليبي يكشف مصير مباراة الأزمة بين الأهلي طرابلس والهلال    محافظ الفيوم يكرم أوائل الثانوية العامة والأزهرية والدبلومات الفنية    الداخلية تضبط طالبا يستعرض بدراجة بخارية    الحماية المدنية تخمد حريق هائل داخل محل دهانات بالمنيا    السيطرة على حريق داخل مخزن مواد غذائية فى الزيتون دون إصابات.. صور    فنان شهير يتهم فتاة بالتحرش به والإساءة لزوجته وفريق بحث لضبطها    قرار هام بشأن البلوجر مونلي صديق سوزي الأردنية بتهمة نشر فديوهات خادشة    إخلاء سبيل طالب طعن زميله في شبرا الخيمة    اتهامات لمحامي بالاعتداء الجنسي على 4 أطفال بالدقهلية    4 أبراج «بيحققوا النجاح بسهولة»: يتمتعون بالإصرار والقوة ويتحملون المسؤولية    كشافين في القرى للبحث عن أم كلثوم والشعراوي.. المسلماني يكشف توجيهات الرئيس    «إسكندرية السينمائي» يطلق استفتاء جماهيري لاختيار أفضل فيلم سياسي مصري    اجتماع مديري الثقافة والتربية والتعليم لتعزيز الأنشطة الثقافية والتعليمية بين الطلاب    ويزو تحكي أسرار "مسرح مصر": «أشرف عبدالباقي كان بيأكلنا ويصرف علينا من جيبه»    جنات لتليفزيون اليوم السابع: "سعيدة بردود الفعل على الألبوم الجديد"    تامر عبد الحميد: نظام الدوري الجديد أصعب.. والحسم قد يأتي مبكرا    المشهد الإعلامى الوطنى.. وما يتطلب فعله..!    فوائد اليانسون، يهدئ المعدة ويعالج نزلات البرد والإنفلونزا ويقوي المناعة    المنوفية تُطلق عيادات الدعم النفسي بخمس وحدات رعاية أساسية | صور    مدير الرعاية الصحية بالأقصر يتابع أعمال التطوير في المجمع الدولي ومستشفى الكرنك    وكيل صحة المنيا يشدد على الانضباط وتطوير الخدمات الصحية    عبدالغفار: «100 يوم صحة» تقدم خدمات علاجية ووقائية متكاملة بالمجان بجميع المحافظات    أمين الفتوى: لا يجوز كتابة كل ما يملك الإنسان لبناته لأنه بذلك يعطل أحكام الميراث    "الجلاد ستيل" يضخ 3 مليارات للتوسع في الإنتاج وزيادة حصته التصديرية    أمين الفتوى يوضح: المال الموهوب من الأب في حياته لا يدخل في الميراث    سعر مواد البناء مساء اليوم 10 أغسطس 2025    حكم الدردشة مع صحابي بالموبايل في الحمام؟.. أمينة الفتوى تجيب    الوطنية للصحافة: صرف مكافأة نهاية الخدمة للمحالين للمعاش خلال يوليو غدا    هل يجوز إجبار الزوجة على الإنفاق في منزل الزوجية؟.. أمينة الفتوى تجيب    اتحاد عمال الجيزة يضع خطته للتأهيل والتدريب المهني    موعد إجازة المولد النبوى الشريف 2025 للقطاعين العام والخاص    الشوربجي يشكر الرئيس السيسي على زيادة بدل التدريب والتكنولوجيا للصحفيين    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دكتور محمد المهدي يكتب: مصر بين النقاب والدير.. تدين الانسحاب
نشر في الدستور الأصلي يوم 29 - 01 - 2010

جاءت تستشيرني في أن ترتدي النقاب، فقلت لها هذا أمر يخصك، فقالت ولكن ذلك سيستدعي تركي لوظيفتي بالضرورة، فسألتها: ولماذا تتركين وظيفتك وقد تعبت أسرتك حتي وفرتها لك وهي وظيفة حكومية محترمة، وأنت مازلت في الثالثة والعشرين من عمرك وأمامك مستقبل مبشر خاصة وقد كنت من المتفوقات في دراستك؟.. ردت بأنها ترغب في التفرغ للدراسات الشرعية وأنها ستلتحق بمعهد إعداد الدعاة؟.. فسألتها إن كانت ترغب أن تتحول لداعية فأجابت بالنفي، إذ هي لا تملك مقومات الداعية، ولكنها ستتعلم لنفسها.. وانصرفت وعرفت بعد سنوات أنها تركت وظيفتها وانتقبت، ولم تكمل مشوارها في معهد إعداد الدعاة حيث تعثرت فيه كثيرا، وهي تجلس في البيت ولا تفعل أي شيء سوي التردد علي دروس العلم الشرعي المنزلي لدي بعض الدعاة الهواة، وهو يقنعها بأن ما فعلته هو الصواب. سيدة أخري تعب والدها وقطع من قوته الكثير لكي تدرس في الجامعة الأمريكية، وتخرجت وكان ترتيبها الثانية علي دفعتها وحصلت علي شهادة متميزة في علوم الإدارة تبعتها بدورات متقدمة في نفس الجامعة وتعرفت علي زميل لها من نفس الجامعة وتزوجا، وكان في تخطيطهما أن يعملا معا في مشروعات خاصة ليحققا طموحاتهما العالية، ولكنها بعد الانخراط في بعض الجلسات الدينية المنزلية قررت التوقف عن كل شيء والتفرغ لحضور الدروس والندوات الدينية وابتعدت عن معارفها وصديقاتها وحتي عن أسرتها الأصلية، وأصبحت تشعر بالغربة تجاه زوجها، فهو منشغل بالنجاح في مشروعاته الحياتية وهي منشغلة بالآخرة، فانفصلا، وأصبحت تعاني معاناة شديدة في توفير وسائل العيش لها ولولديها وتعتمد في ذلك علي ما يأتيها من معونات من إخوتها، ومما يجود به أهل الخير الذين يشاركونها حضور الندوات المنزلية، وهي لا تري بأسا في ذلك علي اعتبار أنها فعلت ما يجعل الله عنها راضياً فالدنيا فانية والآخرة باقية، وليس من الخير أن تزاحم الرجال في الشوارع والطرقات وأماكن العمل. شاب قرر ترك الدراسة في كلية الطب، وقد كان من أوائل الجمهورية في الثانوية العامة وكان الجميع يعول علي أنه سيكون أحد علماء مصر في الطب نظرا لتميزه الواضح وذكائه المتوقد، ولكنه قرر التفرغ للخروج في سبيل الله حيث انتمي إلي جماعة التبليغ والدعوة وأقنعه بعضهم أن دراسة الطب عمل دنيوي أما الدعوة إلي الله فهي ما سيتبقي له. وشبيه بذلك زميل قبطي رحت أتفقد أخباره لأنني كنت أتوقع أن يحقق إنجازات علمية هائلة في مجاله فإذا بي أعلم بأنه ترك كل شيء وأقام في أحد الأديرة بالصحراء الغربية. هي للأسف ليست حالات فردية وإنما هو توجه يكاد يكون ظاهرة، حيث يهجر كثيرون من أبنائنا الحياة ويهاجرون إلي الآخرة قبل أن يعمروا الحياة الدنيا، وبينما تمارس الدول المتقدمة تنمية مواردها وتطوير حياتها ورعاية أبنائها وإرساء قواعد التفكير العلمي الذي ينهض بالحياة ويحسن جودتها، نري انشغالا هائلا في مصر بما يمكن أن نسميه «فرط التدين العشوائي»، وهو نوع من الاستغراق والتشبع بمفاهيم وتصورات دينية بعضها موافق لصحيح الدين وبعضها صناعة بشرية مغلفة بغلاف ديني. وهذا التدين العشوائي يتم علي يد أشخاص هواة يميلون إلي زرع توجهات دينية عدمية أو انسحابية أو هروبية، ويتلقاها منهم أشخاص يجدون صعوبات في التكيف مع الحياة فيسعدون بهذه الرؤي الدينية التي لا تتطلب منهم إلا حضور بعض الجلسات الدينية وإقامة بعض الشعائر.
ونظراً للفراغ السياسي والجمود السياسي الذي يميز ربع القرن الأخير في مصر فإن الناس ارتمت في أحضان التيارات الدينية التي تلوح لهم بالخلاص والسعادة في الدنيا والآخرة وتلطف من أثر ما يعانونه في حياتهم اليومية من شقاء. وفي مقابل انعدام الأحزاب السياسية الحقيقية في مصر تري ازدهارا وتعددا في الجماعات والتيارات الدينية بما يناسب كل الأذواق والتوجهات من أقصي درجات التشدد إلي أكثر درجات التسامح، ومن السلفية الموغلة في التقليد إلي التيارات الموغلة في التحديث والحداثة. والفقر ليس فقط سياسيا وإنما هناك حالة من الفقر المادي وحالة من الفقر العلمي وحالة من الفقر الثقافي، وفوق كل هذا هناك انعدام للأهداف الوطنية أو القومية أو الأممية الكبري التي تجمع شتات الناس حول مشروع مشترك. وحين قرر السادات أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وحين ذكر مبارك أن السلام هو الخيار الإستراتيجي الوحيد، وصلت رسالة للناس أن ينصرفوا كل يبحث عن لقمة عيشه بطريقته، فالدولة قد اتجهت إلي الخصخصة، ولم تعد تقوم بدورها في تشغيل العاطلين أو رعاية المرضي، وإن قامت بشيء من ذلك فهو قدر رمزي لا يغطي احتياجات الجماهير الغفيرة. وهنا أصبح كل شخص يبحث عن مشروعه الفردي، واستشرت الأنانية والذاتية لدي الناس وضعفت الروابط بينهم، ولم يعودوا أصحاب وطن واحد بل أصبحوا وكأنهم سكان في مكان جغرافي واحد ليس بينهم أكثر مما بين سكان العمارات من علاقات سطحية عابرة وأحيانا بلا علاقات.
من الانشطار إلي التشظي
وقبل الثورة كان يعيش المسلمون والأقباط واليهود والجاليات اليونانية والإيطالية وغيرها في وئام وأمان، وكانت محلات التجار اليهود متناثرة في حي الأزهر وفي القاهرة الفاطمية، ومشروعاتهم الاقتصادية لها شهرة واسعة (عمر أفندي، وبنزايون وعدس، وريفولي)، وفي ظروف معينة تم التضييق عليهم ربما بأمر من عبدالناصر وهاجروا أو هجروا من مصر إلي إسرائيل، وخرج بعضهم اليونانيون، وعلت لهجة المصريين والأجانب بشكل شبه عنصري.
وفي عهد الرئيس السادات ومع تنامي دور التيار الإسلامي في الشارع المصري (بدعم من السادات)، حدث بالتوازي نوع من التسييس لدور الكنيسة وبدأ البابا يظهر علي الساحة مدافعا عن حقوق الأقباط ومتحدثا باسمهم أمام الدولة، ومن هنا نشأت حالة من الانشطار في الجماعة المصرية إلي مسلمين وأقباط، وتزايدت حالة الاستقطاب علي الجانبين بتأثير عوامل داخلية وتحفيزات خارجية، خاصة أن المناخ الديني علي الجانبين تحكمه الرؤية السلفية التي تري الآخر (أي آخر) خارجاً عن دائرة الإيمان كما تراها أو تعتقد فيها.
وعجزت الدولة (الرخوة سياسيا والمستأسدة أمنيا) أن تعيد اللحمة لعنصري المجتمع واكتفت بمعالجات جزئية تبدو علي السطح وكأنها حلت المشكلة في حين أنها تغطي عليها لتتفاقم تحت السطح يوما بعد يوم.
ولم يقتصر الأمر علي هذا الانشطار بين عنصري الأمة الرئيسيين وإنما بدأت تحدث انشطارات داخلية أخري علي الجانب الإسلامي والجانب القبطي، فمثلا وجدنا انقسام الشارع الإسلامي بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والجمعية الشرعية وأنصار السنة والتبليغ والدعوة والجهاد وغيرها من الجماعات والتجمعات والتيارات، في حين انقسم البيت القبطي إلي الأرثوذوكس والكاثوليك والإنجيليين وبينهم جميعا صراعات هائلة. وقد يقول قائل: إن هذه اختلافات في التناول والرؤية والممارسة الدينية وهي علامة صحة وعلامة تعددية تعطي خيارات متنوعة للناس حسب طبيعتهم وتوجهاتهم، وهذا مما يدعم حرية الاعتقاد. وقد يكون هذا صحيحا لو أن هناك حالة من التفاهم والتعايش بين هذه التيارات والجماعات الدينية المختلفة ولكن الصورة غير ذلك حيث هناك تناحر وتصارع بينها يصل إلي درجة التفسيق أو التكفير بما يؤدي إلي مزيد من التمزق والمواجهة.
والأخطر في الأمر أن التكتلات الدينية سابقة الذكر لم تبق علي حالها إذ عملت حالة التشرذم والتفكك الاجتماعي من ناحية وعوامل التوظيف والتدعيم الخارجي علي إحداث مزيد من الانشطارات والتصدعات داخل كل كتلة فتحولت إلي كتل أصغر وكلها تتصارع مع بعضها البعض. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل بدأت شظايا صغيرة تتطاير من الكتل الصغيرة المنشطرة، وهذه الشظايا يصعب معرفة مصدرها ووجهتها، وهي مهددة للجميع ومهددة للاستقرار. وهذه الشظايا تجدها بكثرة علي مواقع الإنترنت تسب وتلعن وتحقر في الجماعات والطوائف والديانات الأخري، وإذا سألت عن انتماءاتها الأساسية ربما لا تعرف، فهي شظية شاردة تطيح بالرؤس والأفئدة وتشعل الحرائق في كل مكان، وتحفز خروج شظايا مضادة.
ولما كان هناك صعوبة في الوئام السياسي وصعوبة في تقبل فكرة التعددية السياسية المتعايشة في سلام، كان هناك بالتوازي كفر بالتعددية الدينية وكفر بالتعايش الديني السلمي، وأصبحت هناك رغبة في إقصاء الآخر أو إضعافه للاستئثار بمقعد القيادة والريادة، وكأن الدنيا لا تسع إلا لشخص ولا تسع إلا لحزب ولا تسع إلا لدين ولا تسع إلا لطائفة ولا تسع إلا لجماعة ولا تسع إلا لمجموعة منشقة، وهذه هي فلسفة الانفراد والإقصاء والاستبعاد التي تسيطر علي الحالة السياسية والدينية في مصر وتشكل أرضية خصبة للصراع الديني والطائفي والسياسي.
مراحل الصراع الطائفي
«يا كنيسة يا قيادة.. إحنا جاهزين للشهادة «كان هذا هو الشعار الذي رفعه شباب الأقباط (حوالي خمسة آلاف) في تظاهرة في الكاتدرائية القبطية بعد حادث نجع حمادي الذي قتل فيه ستة أقباط أمام كاتدرائية نجع حمادي في عيد الميلاد 2010 م. هذا الشعار يجب أن ننتبه إليه جيدا إذ هو يعبر عن المرحلة التي وصلنا إليها أو التي اقتربنا منها «جدا»، وهي مرحلة المواجهة الطائفية المسلحة التي ينتج عنها شهداء، وأن الكنيسة هي التي ستقود (حسب ما جاء في الشعار) هذا الجهاد المقدس. ويؤيد هذا الشعار عنوان لموقع علي الإنترنت هو «الأقباط متحدون» وحين تتساءل: متحدون ضد من؟.. تأتي الإجابة حاملة معها كل السيناريوهات المرعبة.
ولكي نفهم لماذا وصل الأمر إلي هذه المرحلة الخطرة لابد وأن نرجع إلي المراحل السابقة التي مرت بها الحالة الدينية في مصر، والتي غفلنا عنها وتركناها تتصاعد بينما نغمض أعيننا ونقنع أنفسنا بأن الأمور بسيطة وتحت السيطرة.
وفيما يلي المراحل التي يمر بها الصراع الطائفي في أي مجتمع:
1- المناخ الطائفي: وهو حالة وجدانية تتسم بالشعور بعدم الارتياح بين طائفتين دينيتين أو أكثر، وهذا الشعور قد يترجم بشكل متناثر في صورة نكات علي الطرف الآخر أو تقليل من شأنه أو النظر إليه علي أنه الأدني، أو أن رائحته كريهة، أو أن طعامه فيه زناخة، أو أن بيته ليس نظيفا، أو أنه ماكر ومخادع، أو أنه ناقص الإيمان، وفي المقابل يشعر كل طرف أنه الأصح إيمانا وأنه الأقرب إلي الله وأنه الأفضل في كل شيء وأنه الأجدر بتسيير دفة الحياة في المجتمع. وقد تنفجر بعض هذه المشاعر بصورة فردية من وقت لآخر بين شخصين أو أكثر ولكن غالبية الناس لا تستدرج إلي صراع جماعي رغم المشاعر الطائفية بداخلها إذ مازالت تري أن التعايش ممكن علي الرغم من بعض الصعوبات والتحديات. وفي هذه المرحلة يحاول كل طرف أن يجمع أسباب قوة مادية وروحية ومعنوية وكأنه يتوقع ضغطا من الطرف الآخر فيتحسب له، ثم إنه يهتم بتربية أبنائه علي الولاء للطائفة التي ينتمي إليها بشكل مطلق وربما يحتاج هذا الأمر إلي بيان عيوب وتشوهات الطرف الآخر لكي يتأكد هذا الولاء المطلق.
2- الفكر الطائفي: وهنا ينشط الدعاة والمنظرون والمفكرون من الجانبين ليظهروا صحة معتقداتهم ومذهبهم الديني، ولا يكتفون بذلك بل يعمدون إلي بيان آفات ومنزلقات وأخطاء الفكر المقابل ولا يخلو الأمر من الغمز واللمز والتحقير والاستخفاف. ويبحث كل طرف في تراث الآخر علي نقاط الضعف - أو ما يعتقد أنها كذلك - لكي يحرق بها عقيدة الآخر أو يضعفها في نظر معتنقيها، ويحاول أن يستقطب أكبر عدد ممكن من المنتمين للطرف الآخر ويعتبر هذا دليلا علي صحة عقيدته.
3- السلوك الطائفي: وهنا يتشكل السلوك في المجتمع علي قاعدة مسلم ومسيحي، أو إخواني وسلفي، أو أرثوذكسي وإنجيلي، ويتم التمييز في المعاملات والوظائف والحقوق بناء علي الهوية الدينية. وهنا يستشعر الطرف المظلوم (أو من يظن أنه كذلك) بالخطر ويحاول جمع شتاته وحشد مصادر قوته وربما حاول الاستقواء بعناصر خارجية تساعده في الحصول علي حقوقه وحماية نفسه. وفي هذه المرحلة نري تفرقة بين الناس علي أساس هويتهم الدينية تصل إلي حد الحرمان من الفرص التعليمية أو الوظيفية، أو الحرمان من حق ممارسة الشعائر التعبدية، أو غيرها.
4- الصراع الطائفي: وفي هذه المرحلة تحدث مواجهات متناثرة علي القاعدة الطائفية وعلي الهوية الدينية، وتصبح هناك حالة من الحساسية الشديدة والاستنفار لكل حدث يكون أحد طرفيه من طائفة والطرف الآخر من الطائفة المخالفة، وحينئذ لا يسأل الناس: من ومتي وأين وكيف ولماذا، وإنما يندفعون بقوة المشاعر المخزونة وبتوجيه من الأفكار السلبية تجاه الآخر. وفي هذه المرحلة يزداد الاستقطاب وتزداد قوة القيادات الدينية وسطوتها إذ تصبح هي الملاذ لأصحاب الطائفة فيرتمون في أحضانها ويسألونها الحل.
5- المواجهة الطائفية: وهي تبدأ حين يشعر الطرف المستضعف (أو الذي يشعر بأنه مستضعف) بأن الوقت حان كي يرد بالقوة، وأنه لا يصح أن يسكت علي حقوقه، وأن لديه من عوامل القوة (الداخلية والخارجية) ما يجعله يقف ويواجه ويأخذ حقه بيده. ويتأكد خيار المواجهة إذا شعر الطرفان بأن آليات الدولة ليست كفيلة بتحقيق العدل أو التوازن، أو أن الدولة متعاطفة مع أحد الأطراف أو متساهلة أو متهاونة مع طرف آخر، هنا تشعر الطوائف المتصارعة أن عليها أن تحمي نفسها بنفسها، وهنا ينهار مبدأ المواطنة في لحظة فاصلة، ويحل محله مبدأ المواجهة الطائفية حتي النصر أو الشهادة. وخطورة الصراع الطائفي أنه صراع شديد الحدة حيث يستند إلي العقيدة الدينية وهي ذات جذور عميقة في النفس البشرية (بصرف النظر عن صحتها أو خطئها) وهي تدفع الإنسان إلي التضحية بحياته بمنتهي السهولة رغبة في نصرة الدين أو الشهادة في سبيل الله.
هل إلي خروج من سبيل؟
يمكن تلخيص الحلول علي النحو التالي:
1- إعادة المجتمع إلي صوابه من حيث استعادة التوازن بين الدنيا والدين، وبمعني آخر مواجهة «فرط التدين العشوائي» والتدين التعصبي والتدين العدمي والتدين الهروبي والتدين الدفاعي والتدين الانتحاري الغاضب، من خلال فتح مجالات للعلم والثقافة والعمل الجاد والتنمية الاقتصادية الحقيقية، وأن يكون ثمة مشروع قومي للخروج من دائرة الفقر والجهل والمرض بشكل حقيقي يجعل الناس مقبلين علي عمران حياتهم وممارسين لشعائر دينهم بشكل عميق متوازن ومتسامح.
2- إصدار قانون لمنع التمييز العنصري يطمئن الجميع علي أن حقوقهم مرعية بواسطة الدولة فلا يلجأون إلي معابدهم أو كنائسهم أو مساجدهم بحثا عن حقوقهم لدي المشايخ والقساوسة.
3- استعادة هيبة الدولة فلا تخضع لابتزاز طائفة أو ضغطها، ولا تحابي أحداً علي أحد بناء علي اعتبارات طائفية أو سياسية وإنما تطبق القانون كما هو علي الجميع.
4- عودة رجال الدين إلي ثكناتهم الدينية والروحية، وألا يفتئتوا علي حق الدولة في الفصل في قضايا مواطنيها، إذ ليس هناك شعب مسلم وشعب قبطي، ولكن هناك شعبا مصريا تحكمه حكومة مصرية ذات هيبة وعدالة.
5- عدم ترك الملف الديني والطائفي في يد الأمن وحده، فهذا فوق طاقته، وإتاحة الفرصة للحلول السياسية والاجتماعية بشكل واسع ومؤثر للوصول إلي حلول حقيقية لمشكلات الطرفين.
6- الانتباه إلي عمليات التسخين والتوظيف الخارجي الذي يسعي إلي زعزعة الاستقرار وخلق حالة من الفوضي في مصر بغية إعادة ترتيب الأوراق بناء علي تحقيق مصالح أجنبية في مصر والمنطقة العربية علي اعتبار أن مصر هي النواة الأكبر والأقوي، وكسرها يعني السيطرة الكاملة والدائمة علي العالم العربي.
7- الحذر من شبهات الاستقواء بالخارج، فهي تزرع الضغينة في النفوس، وتحمل علي تخوين الطرف المستقوي ونزع رداء الوطنية عنه.
8- تجنب توسيع دائرة الخلافات الشخصية والعائلية والقبلية إلي خلافات طائفية، فالطبيعي أن يختلف الناس وربما يتصارعون حتي داخل الطائفة الواحدة، إذن فليس كل شجار بين مسلم ومسيحي شجاراً طائفياً بالضرورة.
9- وضع حل منطقي لما ينشأ من علاقات عاطفية أو جنسية بين الشباب والفتيات من الجانبين، ويشارك في وضع قواعد هذا الحل مجموعة من المفكرين والعلماء من الجانبين حيث إن تشابك العلاقات سيفرز أحداثا علي هذه القاعدة تحتاج إلي نظرة غير طائفية، نظرة تضع في الاعتبار طبيعة الميول العاطفية والجنسية وكيف نضعها في إطار اجتماعي آمن.
10 - عدم اللجوء إلي الكنيسة في كل مشكلة قبطية لأن هذا يسحب دور الدولة في رعاية مواطنيها ويوحي بأنها طرف معاد للأقباط ويزيد من حالة الاستقطاب الخطرة، مما يدفع إلي استقطاب مقابل، فالكنيسة لها سلطة روحية وليست سلطة سياسية.
11- المعالجة المجتمعية المستنيرة والحقيقية لمشاعر الاضطهاد لدي الأقباط، ويقوم بذلك مجموعة من علماء النفس والاجتماع والسياسيين للوقوف علي مصدر أو مصادر هذا الشعور وكيفية علاج أسبابه.
12- الكف عن نغمة مسلم وقبطي في الحياة العامة لأن هذا يرسخ فكرة التعامل علي الهوية، ويساعد علي ذلك قانون منع التمييز العنصري الذي يجرم التفرقة في التعامل علي أساس الدين أو المذهب.
13- مراجعة الفكر السلفي الإقصائي ذات الرؤية الأحادية علي الجانبين حيث إن تفشيه يزكي الصراع طول الوقت خاصة أنه يتمتع باستحسان شعبي وله من الإمكانات الإعلامية والدعوية ما يجعله في كل مكان. وهذا يتأتي بمناقشة هذا الفكر وتصويبه، وإعطاء الفرصة للعلماء الراسخين والمعتدلين أن تصل أصواتهم إلي الناس.
14- الإصلاح السياسي «الحقيقي» للخروج من حالة الجمود التي دفعت الناس للتصارع فيما بينها يأسا من التغيير ويأسا من الحياة. والإصلاح السياسي سينتج عنه أحزاب قوية تستوعب الناس من الطرفين وتمنحهم الفرصة للتعبير عن احتياجاتهم بشكل آمن ومتحضر وسينتج عنه حكومة قوية منتخبة «فعلا» من الشعب بلا تفرقة تحقق مصالح هذا الشعب، وإن لم تنجح في ذلك يسقطها الشعب في الانتخابات ويأتي بغيرها. والإصلاح السياسي سيتبعه إصلاح اقتصادي يفتح للناس آفاق العمل والإنتاج وأبواب الحياة الكريمة الرغدة ويسحبهم من التقاتل الطائفي اليائس والبائس. والإصلاح السياسي سيؤدي إلي توجيه أنظار الناس للعلم النافع الذي يحسن أحوالهم ويرتقي بسلوكهم. والإصلاح السياسي يعطي القدوة للجميع بقبول التعددية وقبول الاختلاف والتعايش مع التبادل السلمي للسلطة، ويزيل الاحتقان الذي يتم إزاحته إلي أحداث وصراعات طائفية. ومع الإصلاح السياسي يزدهر مبدأ المواطنة، ويزدهر الانتماء الوطني، ويشيع العدل بين الجميع ويأمن كل شخص علي نفسه وأهله، ويمارس شعائر دينه بحرية لا تؤذي الآخرين. ومع الإصلاح السياسي يشعر الناس أنهم مواطنون في دولة حقيقية ذات مؤسسات فاعلة، ولذلك حين تواجههم مشكلات حياتية يلجأون إلي مؤسسات الدولة وإلي الجهات القانونية وإلي الأحزاب السياسية، ولا يلجأون إلي الكنائس أو المعابد إلا في مسائلهم الروحية.
ولم يعد الأمر يحتمل كثيرا من الانتظار والتسويف والتمييع والإنكار، وسوف ندفع الثمن جميعا إذا تركنا مصر تسير نحو نار الطائفية ونحن عنها غافلون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.