على ضفاف بحيرة طبريا الفلسطينية عام 1910، أقام مجموعة من الصهاينة القادمون من ألمانيا وبولندا وروسيا، أول مستوطنة زراعية «شبه عسكرية» في إطار موجة الهجرة الثانية، ضمن 5 موجات هجرة يهودية منظمة شهدها الأراضي الفلسطينية بين العامين 1882 إلى 1939، وقد حمل هذا التجمع الاستيطاني الزراعي اسم «كيبوتس دجانيا» واستوطنه عدد من المهاجرين غير الشرعيين. على النحو ذاته ظهرت «الكيبوتسات الزراعية» كيانات «اشتراكية» تتخفى في عباءة الزراعة والرعي فيما هي حاضنة «رأسمالية» لجماعة «وظيفية معسكرة» ذات أهداف استعمارية أسهمت في الاستيلاء على أراضي الفلسطنيين على مدار 114 عاما مضت، وقد خرجت من عباءتها منظمة «الهاجاناه»_ أول منظمة عسكرية صهيونية عكفت لاحقا على طرد الفلسطينيين من أراضيهم ومنازلهم بقوة السلاح تحت مظلة الاحتلال البريطاني عام 1920. وارتكبت طوال فترة وجودها جرائم حرب وإبادة جماعية بحق قرى وبلدات فلسطينية عبر تشريد مئات الآلاف من من سكانها وإحلال المستوطنات اليهودية محلهم، فضلا عن مساعدة منظماتٍ أخرى على ارتكاب مذابح، كان أشهرها دير ياسين واجتياح حيفا وتهجير أغلبية أهلهما في أبريل 1984 تمهيدا لقيام دولة الاحتلال في مايو من العام ذاته لتتحول المنظمة الإرهابية إلى ما سمي «جيش الدفاع الإسرائيلي». استمرت ماساة نهب أراضي الفلسطينيين على النحو ذاته عبر المزارع الاستسطانية والبؤر الرعوية كأداة تستخدمها دولة الاحتلال للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفّة الغربيّة عقب طرد التجمّعات الفلسطينيّة التي تعيش عليها بالقوة القاهرة. يروي الحاج تحسين حامد (72 عامًا) من سكان قرية شوفة، جنوب شرق مدينة طولكرم شهادته لمنظمة «بيت سيليم الإسرائيلية» حكاية إحدى تلك المستوطنات الزراعية قائلا: «ورثت مع إخوتي جمال ومعين وأحمد وإبراهيم أرضًا مساحتها 500 دونم تبعُد مسافة 500-400 متر عن السّياج الأمنيّ المحيط بمستوطنة «أفني حيفتس»- التي أقيمت على أراضي سكّان قريتنا، في العام 2018 استولى مستوطن بقوة السلاح على تلّة في منطقة منزلة بير سالم إلى الجهة الشمالية-الغربية من المستوطنة، جلب عائلته، وحط خيامًا وحظائر للمواشي ليرعي أغنامه داخل كُرومنا، لتلتهم أغصان أشجار الزيتون ومحاصيلنا التي غرسناها ليبني مزرعته التي سماها «ميجد هآرتس» أي مجد الأرض في إسارة إلى مفهوم اليمين العقائدي لما يسمي بإسرائيل الكبرى ممتدة حدودها من النيل للفرات». يستكمل حديثه، قائلاً: «في أعقاب السابع من أكتوبر، جلب ذاك المستوطن مستوطنين أخرين لطردنا من أراضينا بالقوة، نتعرض للاحتكاكات اليومية، وحين نبدي أي ردة فعل يستدعون جنودًا إسرائيليّين، فيأتون ويطردوننا من أرضنا بذرائع شتّى، نمكث في أرضنا، وندرك أنّ استفزازات المستوطنين وعُنفهم مقدّمة لما يسعون إليه: هُم يُريدون لنا أن نهجُر أرضنا كي يتمكّنوا من الاستيلاء عليها». في إطار تقريرها حول المزارع الاستيطانيّة وثقت مؤسسة «بيت سيلم» الإسرائلية نماذج لاستيلاء مستوطنين على أراضي فلسطينيين بقريتي شوفة وكفا بقوة الساح وبمساعدة جنود جيش الاحتلال، كان بينها ماساة الحاج تحسين . ماساة الحاج حامد، يعايشها آلاف الفلسيطنيين في بقاع عديدة في الضفة الغربيةالمحتلة؛ فافتعال مثل هذه «الاحتكاكات» يقدّم مثالًا جيّدًا على الهدف الذي لأجله تُقام هذه المزارع الاستيطانيّة والطريقة التي يتّبعها مستوطنوها في توسيع نطاق سيطرتهم؛ إذ شجعت الحكومات الإسرائيلية بمختلف توجهاتها وأطيافها السياسية المشروع الاستيطاني. ومنذ زحف الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة عام 1967، بلغت نسبة الأراضي الممنوحة للمستوطنين 99% من إجمالي الأراضي المخصصة لأعمال البناء، بينما خصصت حكومة الاحتلال نسبة 1% فقط للفلسطينيين فيما تغدق على المستوطنين اليهود المعونات بالحوافز المالية بغض النظر عن وضعهم الملي لتمكينهم من الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية. في تقرير نشر يوم السابع والعشرين من أغسطس الجاري لها أوضحت منظمة«بيت سيليم» الإسرائلية أن البؤر الاستيطانيّة سواء «مزارع» أو«بؤر رعوية» تنامت خلال العقد الأخير،وباتت إحدى الطرق الرئيسة التي تستخدمها «إسرائيل» للاستيلاء على الأراضي في الضفّة الغربيّة لطرد التجمّعات الفلسطينيّة التي تعيش عليها وذلك بخلاف الخطوات الرسميّة التي يتمّ اتّخاذها لإقامة مستوطنات. هكذا تتخفى استراتيجة التوسع خلف ستار تلك البؤر الاستيطانيّة التي تسمح للاحتلال بالتنصّل من المسؤوليّة عن الاستيلاء المباشر على الأرض وعن الممارسات العنيفة وغير القانونيّة التي يرتكبها المستوطنون رغم أنّها تتم بدعم من قوى الشرطة والجيش. منذ 7 من أكتوبر وبذرائع أمنية، تفاقمت ممارسات المستوطنين الساعية إلى الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين سواء من ناحية حجم انتشارها وآثارها. بتاريخ 4 فبراير 2024، صادقت حكومة الاحتلال الإسرائيلي على استمرار التمويل غير المباشر للبؤر الاستيطانية الزراعية في أراضي الضفة الغربية؛ وبهذا تستخدم إسرائيل مبعوثيها (المستوطنين) كأداة لتنفيذ استراتيجيتها طويلة الأمد لبلوغ مساعي التوسع. من ناحية أخرى تصاعدت حدّة عنف المستوطنين وهُجِّر في هذا الإطار عشرات التجمعات السكنية الفلسطينية ضمنها 19 تجمّعًا فلسطينيًّا أخرجوا من مساكنهم وأراضيهم بهذه الوسائل وثقتهم منظمة بيت سيليم فيما تواجه اليوم تجمّعات أخرى كثيرة تهديدًا وجوديًّا خطيرًا لاسيما في أعقاب العملية العسكرية الإسرائلية في الضفة المحتلة . يأتي ذلك بعدما وثق مركز «مدار» الفلسطيني حوالى 146 مستوطنة مقامة في أراضي الضفة الغربية (شكلت ما نسبته 70% من مساحات الأراضي في مناطق «ج»)، وذلك أضافة إلى 20 منطقة صناعية، و144 بؤرة استيطانية موضحة أن حوالى 64% من هذه البؤر الاستيطانية أقيمت في أعقاب العام 2017 (في فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب)، بينما أقيمت 16% منها (أي 26 بؤرة استيطانية) في العام 2023 وحده، ما يفسر مد نتنياهو أمد الحرب أملا في تنفيذ خطته الاستيطانية التتوسعية بدعم ترامبي؛ بل أن ثمة رؤي فلسطينية تفيد بأن العملية العسكرية الموسعة في الضفة الغربية التي شنها الاحتلال الأسبوع الماضي ما هي إلا غطاءا لموجة التوسع الاستطيناني الشرسة تلك، ليس إلا.