أغضب من مصر، وأحزن عليها، لكننى لم أيأس منها يوماً، وأخشى أن يقودنى تفاؤلى إلى التواطؤ مع جلاديها، فقد بدأت بحب «مصر الثورة»، وظللت أردد أغانيها الحماسية، حتى عندما زحفت «الردة» على كل شىء، كان الواقع فى السبعينيات مغايراً لما حفرته أيام الطفولة الأولى فى وجدانى.. تحية علم الجمهورية العربية المتحدة برغم الانفصال، البكاء فى طابور الصباح على شهداء جزيرة شدوان، صور عبدالناصر على جدران بيتنا، بالرغم من أن أبى لم يحب عبدالناصر طيلة حياته، وعندما التقى نجله خالد فى نفس البيت فى الثمانينيات أعاد صياغة علاقته بسيرة الأب، بسبب ما لمسه من دماثة خلق الابن. فى تلك الفترة كنت أحلم مع أبناء جيلى من الشباب الناصرى بأن الثورة قاب قوسين أو أدنى، وكنا نردد بيقين مطلق أننا «نقيض» للنظام، لا نسعى إلى إصلاح أو ترميم، ولكن إلى ثورة شاملة نغير فيها كل شىء ونعيد الروح لمفاهيم «الحرية والاشتراكية والوحدة»، وأذكر أننى التحقت فى هذه الفترة بصحيفة «الأهرام»، وانتظمت عدة أسابيع لم أستطع خلالها أن «أفرح» بالفرصة أو أعلنها فى دوائرى النضالية، وذات صباح جلست على رصيف «الأهرام» من الخارج، ونظرت إلى المبنى الذى كنا ننسبه إلى الأستاذ هيكل بكل ميراثه الناصرى، واكتشفت المفارقة بين صورة المبنى من الخارج وبين ما رأيته فى الداخل، وقررت عدم العودة ل«الأهرام» مجدداً، قررت أن أحافظ على عهدى بالبقاء خارج مؤسسات النظام، الذى نريد أن ننقض عليه، لكن السنوات تسربت دون أن نقترب خطوة واحدة على طريق الثورة، كنا نعاند ونسرف فى الأمل والأمنيات ونبالغ فى قدراتنا، ولما اكتشفنا صعوبة المهمة، قلنا ننادى بتوحيد الفصائل الناصرية، ولما تعبنا بدأنا نراهن على «جبهة يسارية»، ولما فشلت الصيغ الجبهوية، بدأنا نتحدث عن «الوطنية الجامعة»، وانتقلنا تحت ضغط الواقع البليد من حلم «مصر الثورة» إلى الرهان على «مصر الدولة».. كان البلد يتجه يميناً بكل قوة، بحيث بات نداء التحول إلى اليسار عبثيا، فظهرت نداءات الوسطية والاعتدال، ليس فى الفكر القومى وحسب ولكن فى تيارات الإسلام السياسى أيضاً، ومع انتصاف التسعينيات غادر الرفاق مفاهيم نضال السجون، ونبذوا أفكار التنظيمات السرية، ومحاولة التغيير بالثورة الشعبية أو بآلات عنف تطيح بالسلطة القائمة على غرار «انقلابات جمهوريات الموز»، وبدأت تتسلل إلينا مفاهيم وسياسات كانت مدانة بشدة من قبل، مثل شعار «إصلاح النظام من الداخل»، أو «النضال تحت مظلة القوانين»، أو «استغلال الهامش الديمقراطى لإنجاز التغيير عن طريق توعية وتثوير الجماهير». انقضت الألفية الثانية، ومصر من سيئ إلى أسوأ، «المركز» يترنح أمام التخوم، و«إقليم القاعدة» يفقد أدواره وتأثيره فى المنطقة وخارجها، و«الدولة الأم» تنكفئ على ذاتها وتغرق محلياً فى مشاكل وقضايا وأزمات الذات، قالوا «مصر أولاً»، فإذا بنا قابعون فى آخر الطابور، ومع ذلك مازلنا «نتفشخر على الفاضى»، ونسمع كثيراً، ونقرأ كثيراً عن النهضة والتصحيح والصحوة الكبرى وسنوات الرخاء، وتوسيع الديمقراطية، والفكر الجديد، لكن شيئاً مما نسمع عنه لم يحدث، ولم يعد أمامنا إلا أن نجد المزيد من المبررات لننتقل إلى الحقبة الثالثة وندخل حظيرة «مصر الحزب» و«مصر العزبة»، بعد أن ابتعدت «مصر الثورة»، وترهلت «مصر الدولة». لقد رأيت الكثيرين من حولى يغيرون مصائرهم بضغطة صغيرة على زر الاستسلام للمرحلة، استمارة فى الحزب الحاكم، ووصلة نفاق لمحسن بيه، وبعدها «هوبه.. تطلع فوق»، ويمكنك أن تبرر ذلك مثلما قال الممثل الجميل حسن العدل فى فيلم يوسف شاهين القصير «القاهرة منورة بأهلها»: «الكل باع.. بيع وخش فى النظام».. ويمكنك أن تقف فى ذلك الطابور العنيد لأولئك «الذين يصعدون إلى حتفهم باسمين»، وأنا ممن اختاروا منذ البداية مصير أنتيجون وسبارتكوس، لذلك فقد يعرف الموت طريقى، لكن اليأس لا، و1000 لا. [email protected]