لم أعرف صخباً كالذي يلازمني الآن في صمتي .. الأفكار تطاردني أينما أمضي والحزن لايتسلل فقط الي قلبي بل يصارعني، والهواجس في عيني الشاردتين تزرع افقا غائما و... انا اري العالم مثل حبة رمل أحاول أن ألتقفها بيدي متجاوزة عجزي وانجذابي إلي الماضي.. كل يوم يمر هو قلق جديد يتراكم علي ما سبق. لا نجاة من القلق ولا شيء يمكنه تبديده. سحقتنا سلاسل الفقر وشعارات "القادم أسوأ" وهي تضغط علي أرواحنا، ونحن نتحسس رؤوسنا يومياً، نقيس مدي تورمها وتألمها. . أصبح المشهد السياسي مضحكاً، لكنه الضحك الهستيري المولود من موت أحلامنا والخارج من أرحام هزائمنا في وطن لم نسكنه سوي في الخيال.. وطن مسروق من صورة رسمناها بعيداً عن لعبة الخرائط وطن أهذي به كلما شاهدت صورة جمال عبدالناصر أو كلما سمعت صوته صدفة أو مررت المرور العابر بضريحه أو بكوبري القبة!! أهذي به، وأضبط نفسي أغني "يا جمال يا حبيب الملايين .. ماشيين في طريقك مش ناسيين ..للنور طالعين .. للخير رايحين.. وياك يا حبيب الملايين .." أو " ناصر ياحرية، ناصر يا اشتراكية، ياروح الأمة العربية"، وأتهور أكثر في الغناء وأردد بصوت عالي "فدائي.. فدائي، وأموت أعيش مايهمنيش مادام علم العروبة باقي"، أو أقسم بسماها وبترابها، ودروبها وأبوابها أن الشمس العربية لن تغيب "طول ما أنا عايش فوق الدنيا"!! أهذي أكثر و أغضب وأحزن أكثر وأكثر علي أحلامي في وطن رددت كل أغانيه الحماسية وحفرت ملامحه في وجداني منذ أيام الطفولة مع صور عبدالناصر علي جدران بيتنا . هذياني يتصاعد مع شعوري بالخذلان في وعد الأحلام الذي لم يتحقق، لكن في كل ذكري لرحيل ناصر أكتشف أنني لست أهذي وحدي، فهذا موعدي السنوي لأسمع من أمي، عيناها لم تزل تدمع، عن "كوم الأطرون".. قريتي الصغيرة التي خرجت متشحة بالسواد، كما فعلت مصر كلها، وراء نعش خاو من صاحبه.. نعش جمال، الذي كان يمرق ويخترق الشوارع ووراءه ناس مصر الكثيرة والكبيرة تبكي "الوداع ياجمال.. ياحبيب الملايين" . كما لايمكن أن أنسي نظرة السيدة اللبنانية العجوز التي صادفتها في بيروت حين قالت لماعرفت أنني مصرية:" ايييه من بلد ناصر" ثم قبلت جبيني قبل أن تستطرد " لو كان ناصر حياً لماتألمت شجرة أرز في جبل لبنان"، أو ذلك الرجل الجزائري صاحب أحد المحلات التجارية في مدينة وهران الذي أصر علي تقديم خصومات علي مااشتريته احتفاء بي لأنني من بلد الزعيم جمال عبدالناصر، وكان ذلك قبل معارك الثأر بيننا وبين الجزائريين بسبب موقعة أم درمان الكروية بقليل!! . ناصر هو الأيقونة والحلم والجسر إلي عروبتنا المهدورة الآن، وهو الصورة الإيجابية لوطن استيقظنا علي اختفائه.. وخروجه من ضفافنا، أو كما يقول صديقي وأستاذي جمال الجمل: "خرجنا من التاريخ، وهانحن نخرج من الجغرافيا، مهددون بفقدان النيل، وإطلاق قمر "اسهيل"، ومخالب صقور الحرب في إسرائيل، فقدنا المكانة وهانحن نفقد المكان، نبتلع إهانات البعيد والقريب.. يجلدوننا ويطردوننا ويصلبوننا في شوارع حلمنا طويلاً إنها جزء من تراب وطننا الكبير، ويجلدوننا ويطردوننا ويصلبوننا في طوابير الهجرة، وبيوت الخدمة، ومناجم السخرة، ويستخدمون لحمنا جسراً يعبرون فوقه إلي أحلامهم واستراتيجياتهم". و لاأملك في هذياني الآن سوي أن أردد مع محمود درويش قصيدته التي كتبها "ذو الظل الأخضر": نعيش معك نسير معك نجوع معك وحين تموت.. نحاول أَلاَّ نموت معك... ... ولست نبياً ولكن ظلَّكَ أخضر. [email protected]