كم معقدة هى النفس البشرية.. وكم صعب هو اختراق طبقاتها، خاصة تلك المدلهمة بالوسواس والوهم المتأصل فى تفاصيلها.. لست عالمة نفس، بل مسافرة بين أروقة علمها يحلو لها الغوص فى بحرها.. تسحبها نظرة عين أو جملة لفظية أو سلوك ما ليوصلنى ذلك كله إلى الأسلوب الأمثل للتعامل الإنسانى ويعزز القدرة على التحليل وتقمص الآخرين لمعرفة أسباب غضبهم أو خصامهم وما يحبون أن تعاملهم به.. جربت ذلك وكنت أخيب حينا وحينا أصيب.. لكنّى فشلت فى تقمص مستبد ظالم مضطرب متقلب ذى مزاج عدوانىّ.. مما جعلنى أستعين بأصحاب التخصص النفسى لأضع تلك الشخصيات تحت مجهر علمىّ للاختبار والقياس.. منها حكام مغيبون بشهوة السلطة ونشوة الدماء، وأخرى تعيش بيننا.. فهذا غراب يمشى مشية طاووس، وذاك مغرور يناطح السحاب.. وآخر فظّ بذىء يتعمد سحق الحياء بأقدام جرأة تستهجنها منظومة السلوك والمعيار القيمىّ.. لعلّى أجد الرابط بين تلك الصفات ومصطلح (جنون العظمة ) أو وهم العظمة (البانورايا) إذا ما وضعنا تلك الصفات تحت بند الخلل النفسى لا العقلى.. أما ما جعلنى أسبر أغوار موضوع كهذا واختياره لمقال، فهو ما نعيشه من مرحلة ثورات شعبية وصلت أصداؤها إلى أوروبا لتتصاعد أصوات المطالبة بالتغيير، خاصة فى فرنسا وما شاهدناه من استدعاء (شيراك) واستجوابه على قضايا فساد مالى!! وكانت خلاصة ما أردت التوصل إليه هو حالة (القذافى) وأقرانه الطواغيت ممن يمارسون ساديتهم وقمعهم لصرخات الحرية، وتمسكهم بالسلطة حتى لو أبيدت شعوبهم.. فكانوا خير عيّنة لمصطلح (جنون أو وهم العظمة). وما يتصف به مريضه من فوقية وصفات على غير الواقع، فهو النبى والمخلّص والفيلسوف والأديب والسياسى الذى لا يضاهى، ليصل به الوهم إلى (الألوهية) وخلود دنيوى أبدىّ لا يؤرقه عقاب جهنم أو ثواب جنّة، فيصول يسرق، يقتل، يعزّ، يذلّ، ويستعبد كما يشاء. فالبعض لا يصاب بهذا إلا بعد ولاية يأتيها حمل وديع حتّى يحلّق به هتاف الجماهير إلى عالم العظمة، فيكشر عن أنيابه وتمد البطانة مأدبة الاضطهاد وتبدأ هتّيفة السلطة وأبواقها المشتراة تأليهه، فتحوّله بدمويتها واستماتتها على الديمومة إلى ربّ لا يحتمل شرك أو كفراً بوجوده، ليكون عقاب الكافر جحيم معتقلات وتعذيب حتى الموت. أما الصنف الآخر من مرضى العظمة، فهو القادم من بوابات الدم، المهووس الآتى لنفث سمومه وإطلاق شرور تعكس ما يكمن فى اللاشعور من حرمان وإحساس بالنقص وفقر واضطهاد وتعرض لحوادث مخجلة وصراع بين رغبة مكبوتة وخوف من فشل وعدم توافق بين طموح وقدرات واضطراب فكرىّ ومشاكسة وسادية ونرجسية عالية الأنا، واستخفاف وسخرية ومنافسة غير شريفة وحسد وغيرة وعقل تآمرى وتمحور حول الذات. يتمخض عن فصام يصل إلى قتل من يخالف له رأياً أو يكذّبه. أو يوقظه من عالم اللذة المجنون ليزداد هوسا لو كان بالأصل (سايكوباث) لا يعرف للرحمة معنى، تراه يرتدى قناع الخداع ليسهل له الانقضاض على ضحيته.. ازدواجى يتنقل بين شخصيتين متناقضتين يستمد من إحداهما ادعاء المبادئ وما يناسب المعقول للتعويض عن نقائص الأخرى. كل تلك الصفات تحملها شخصية (مجنون العظمة والبانورايا والسايكوباث والفصام والسادية والنرجسية) التى يمثلها أشباه (القذافى) و(صالح) من المستبدين المرضى، مما يستدعى الحجر عليهم أو القتل لتجنيب الشعب خطورة هذا الجنون الدموى الذى يؤججه صوت الرفض ومنظر الدماء والجثث المتساقطة على أرصفة الشهادة.. لذلك من الأفضل للشعوب أن يقدّم الحاكم شهادة طبية تثبت سلامته عقليا ونفسيا قبل أن يتسلم مقاليد السلطة.. وياحبّذا لو عكف العلماء على إيجاد (مصل) للوقاية من فيروس العظمة الذى انتشر بين الحكام والعامة من ضحايا الفقر والاستبداد والاضطهاد السياسى والنفسى والطبقى لكى لا يدفع الوطن استقراره ضريبة لجنون العظمة ووهمها.