عند النزول من بيتى فى الصباح الباكر يكتسى وجهى بتكشيرة محترمة تحسباً لما قد أقابله فى الشارع القاهرى المجيد. على فكرة أنا لم أولد بتكشيرة، فقد علمنى أبى أن أتقبل أزمات الحياة وبلاويها بابتسامة. وأدعى أن التحول الذى طرأ علىّ قد حدث بعد طول تجربة. قبل التحول كنت قد بدأت ألاحظ أن الناس فى قاهرتى لا يبتسمون. يذهبون إلى أعمالهم فى الصباح وقد كست ملامحهم تقطيبة مرعبة. ستقولون إن الناس مطحونة، تسعى جاهدة إلى لقمة العيش الصعبة. سأرد عليكم بأن من أتحدث عنهم ليسوا ساكنى العشوائيات بل هم طبقة متوسطة كما يظهر من السيارات التى يمتلكونها. ولكن كل منهم يقود السيارة مكشرا جبينه سارحا فى الملكوت، وأحيانا تزيد حدة التقطيبة لو كانت المدام مع السيد فى السيارة، بينما هى أيضا تنظر إلى الأمام دون أن تتبادل معه كلمة أو ابتسامة. جرب أن تدخل أى مصلحة حكومية ولاحظ وجوه الموظفين. ماذا ترى عندما تدخل إلى بنك أو شهر عقارى أو إلى مدرسة ابنك، حيث يتلقى مبادئ المعرفة والتربية! (الأطفال.. كان الله فى عونهم وهم يتجرعون سموم الاكتئاب منذ اللفة). جرب أن تبتسم وتلقى «صباح الخير يا فندم» على أحد الإخوة المواطنين. أتحداك لوسمعت «صباح النور» ولا تجرؤ أن تحلم أن يبتسم لك، ولو قررت ممارسة «الرزالة» وإعادة التحية بصوت أعلى فلن تسمع سوى همهمة مضغوطة بلا ملامح. قضيت أسابيع قليلة منذ بضع سنوات فى قرية سويسرية صغيرة. وعندما خرجت أتمشى رأيت على بعد خطوات منى امرأة فى السبعين ربيعا. عندما اقتربت منى قالت بابتسامة واسعة «بونجور». تجمدت فى مكانى لثوان قليلة عاجزا عن الرد وعقلى فى حالة شلل مطلق. يالهوى «بونجور»! فى تلك الثوانى تضاربت فى عقلى الأفكار: أدركت أن وجهى مصرى أصيل، متجهم سارح فى الملكوت وعليه تكشيرة أعوذ بالله. أدركت أننى نسيت قاموس الابتسام للغرباء. استغربت اضطرابى لأن من يلقى عليّ تحية الصباح هى امرأة لطيفة تشبه جدتى وليس رجلا قد يكون متحرشا (فقط لكونه رجلا). وعندما أفقت قليلا من «الخضة» كانت المرأة قد فاتتنى فرددت بصوت واهن غارق فى الخجل «بونجور مدام»، ولا أظنها قد سمعتنى. عدت إلى مصر ببقايا «الخضة» وتساؤلات عن حالة الاكتئاب العام التى يعانيها المصريون فى السنوات الأخيرة. لقد كنا دوما شعبا محبا للحياة قادرا على الاستمتاع بها رغم الفقر والأزمات. نحن من اخترع عروسة المولد والحصان ومراجيح الموالد والغناء. نحن من اخترع فوانيس رمضان وأنواره الملونة والخروج إلى الحدائق فى «شم النسيم». ورغم أننا لا نزال نمارس تلك الطقوس، فإنها أصبحت شكلا فارغا منزوع البهجة. ما الذى جرى لنا فتحولنا إلى ملايين من المكتئبين الغائبين عن أنفسهم؟ هل يمكن إرجاع السبب إلى الأزمات الاقتصادية الطاحنة فقط؟ لا أعتقد ذلك. هل يكمن التفسير فى غياب الحريات؟ لكننا منذ عقود لا نتمتع بالحرية. لا أملك إجابات لكننى أتساءل كيف يمكن أن يصبح شعب منتجا وهو غير قادر على الابتسام؟ كيف يمكن أن نربى أجيالا صحيحة نفسيا ونحن هكذا!