تعد هذه الحلقة هي المحطة الثانية الأهم في المشروع التحديثي والنهضوي لمصر وهي فترة حكم الخديو إسماعيل الذي تولي حكم مصر في 18 يناير 1863، ولكي يبدو كحاكم شرقي متنور رأى أن ينشئ في مصر مجلس شورى النواب من 75 عضوًا وافتتح المجلس في 1866م وحضره إسماعيل باشا وألقى خطاب العرش.وبعد مضي 10 أعوام على المجلس تحول إلى مجلس نيابي يسقط حكومة ويحدث ثورة، وحين اعتلى السلطان عبد الحميد الثاني عرش الدولة العثمانية أعلن الدستور لأول مرة في حياة الدولة العثمانية، حيث نص على حرية الفرد وحرية الضمير وحرية الصحافة وحرية التعليم والمساواة في الضرائب وعدم قابلية القضاة للعزل، وسلطة مجلس النواب، الذى يختار بالانتخاب العام، في التشريع، وفي أسقاط الحكومة.وكان لذلك عظيم الأثر في الرأى العام المصري، الذي بدأ يطالب بحقه في إخضاع الحاكم لمشورة الشعب، وتزويد ممثلى الأمة بالسلطة في إدارة البلاد.وفي الثامن من أبريل 1877 تألفت وزارة محمد شريف باشا من أقطاب الحزب الوطني الذين أسهموا في الحركة الدستورية وهم إسماعيل باشا راغب (للمالية) شاهين باشا (للحربية) وزكى باشا (للأشغال) وذو الفقار باشا (الحقانية) ومحمد باشا ثابت (للمعارف العمومية والأوقاف) وعمر باشا لطفي لتفتيش عموم الأقاليم البحرية والقبلية، واحتفظ شريف باشا لنفسه مع الرئاسة بوزارة الداخلية والخارجية.قامت الوزارة الجديدة بإلغاء قرار الخديو السابق بإنهاء أعمال مجلس النواب واستمرار المجلس في عمله، مما توج كفاح المجلس في أول ثورة دستورية بالانتصار، وفي 17 مايو سنة 1879 تقدم شريف باشا إلى المجلس باللائحة الأساسية الجديدة (الدستور).وبمقتضى هذا الدستور أصبح التشريع من حق مجلس النواب، فلا يصدر قانون إلا بموافقته، ولا تفرض ضريبة على الشعب إلا بموافقته فكان دستور 1879 أول دستور مصري على أحدث النظم الدستورية، والذي يتألف من 49 مادة وقد أقر حق النواب في السؤال والاستجواب، وحق إسقاط الوزارة إن لم تحز ثقته وأسبغ على النواب الحصانة البرلمانية، وعدم مسؤوليتهم عما يقولونه في المجلس.وتحدد أعضاء المجلس ب120 نائباً يمثل بعضهم شعب السودان، وكان معنى ذلك اعتبار مصر والسودان وطنا واحدًا وشعبا واحدا يحكم نفسه من خلال نوابه وممثليه.وحين وُلى إسماعيل الأمر سنة 1863، كانت البلاد محرومة من مثل هذه الهيئات بعد إلغاء «مجلس المشورة» الذي أسسه محمد على سنة 1829 وكان بمثابة أول هيئة نيابية ظهرت في عهد الأسرة المحمدية العلوية وقد أنشئ هذا المجلس سنة 1866، ووضع الخديو إسماعيل نظامه في لائحتين عرفت الأولى باللائحة الأساسية، وهى مؤلفة من ثمانى عشرة مادة مشتملة على بيان سلطاته، وطريقة انتخابه، وموعد اجتماعه، وكان نظام الانتخاب له أثر بالغ في تكوين المجلس، لأن حصر حق الانتخاب في العمد والمشايخ أسفر عن انتخاب معظمهم من أعيان البلد، حتى صار جديرا بأن يسمى «مجلس الأعيان».وخلا المجلس من الطبقات المتعلمة التى تخرجت من المدارس والبعثات العلمية منذ عهد محمد علي، وبذلك حرم طبقا للمصطلحات البرلمانية من «روح المعارضة»، وبخاصة بدءاً من عام 1876 وبدءًا من دور الانعقاد في يناير 1879 وهو آخر أدوار الانعقاد في عهد إسماعيل، وكانت أعمال المجلس حلقات متصلة من المواقف الحسنة، كما نوقشت لأول مرة وبجلاء المسألة الدستورية.وفي 2 أبريل سنة 1879 اجتمع الأحرار من الأعيان والنواب والعلماء والمأمورين بدار إسماعيل راغب باشا، وكان في مقدمة الحاضرين شريف باشا، كزعيم سياسي معروف عنه كرهه للتدخل الأوروبي، واتفقوا على وضع لائحة ضمنوها مطالبهم وسميت «اللائحة الوطنية» والتي تضمنت المطالبة بتعديل نظام مجلس شورى النواب وتخويله السلطة المعترف بها للمجالس النيابية في أوروبا وتقرير مبدأ المسؤولية الوزارية أمامه.وبلغ عدد الموقعين عليها 60 من أعضاء مجلس شورى النواب، و60 من العلماء والهيئات الدينية، وفي مقدمتهم شيخ الإسلام، وبطريرك الأقباط وحاخام الإسرائيليين و42 من الأعيان والتجار، و72 من الموظفين العاملين والمتقاعدين، و93 من الضباط، وقد تضمنت هذه اللائحة الوطنية الإصلاح الدستوري الذي أجمع عليه الأحرار في ذلك العصر. كما طالبت بتقرير مبدأ المسؤولية الوزارية أمام مجلس النواب، ثم قدم وفد من الأحرار اللائحة الوطنية إلى الخديو، فاستجاب إلى مطالبهم، وأقر اللائحة الوطنية، وأمر بترجمتها، وكتبت منها عدة نسخ بالفرنسية لترسل إلى قناصل الدول.وكلف الخديو شريف باشا بتأليف الوزارة الجديدة، فكانت وزارة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابى ينتخب على نظام جديد في عام 1879، وقد قرر الخديو في كتابه مبدأ مسؤولية الوزارة أمام مجلس شورى النواب وهي أساس النظام الدستوري الحديث، حيث إن هذا المبدأ يعد قوام الدساتير ولكن الدول الأوروبية وقفت بالمرصاد للوزارة الوطنية وللخديو إسماعيل، وسعت في خلعه حتى تم لها ما أرادت. وتعطلت الحياة النيابية في أوائل عهد الخديو توفيق مدى سنتين، على أن مبدأ المسؤولية الوزارية أمام مجلس النواب بقى حجر الزاوية في حياة الأمة الدستورية، فتقرر ثانيا في دستور 1882 على عهد الخديو توفيق، إلى أن دخل الاحتلال البريطاني مصر، فألغته السياسة الاستعمارية سنة 1883 باستصدارها القانون النظامي الذي ألغى مجلس النواب وأنشأ مكانه مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية.واختفى مبدأ المسؤولية الوزارية لوقت طويل من النظام الدستورى المصري، إلى أن عاد إلى الظهور في دستور سنة 1923، وبقي لشريف باشا في هذا السياق السبق في تدشينه حياة ونصوصا دستورية متكاملة ومعاصرة ومحددة القوام.