الليل يوغل فى الظلام، والحوانيت تغلق تباعاً. معظم المكاتب فى البناية العجوز قد أغلقت أبوابها فيما عدا مكتب «الآلة الكاتبة». الزبائن ينصرفون تباعاً باستثناء فتاة الدبلوم المتعجلة التى تريد - بأى طريقة - تأجيل ما تبقى من عملها للغد، والفتى الحالم ذو الشعر المنكوش والهندام المبعثر يتوسل إليها أن تفرغ أولا من الكتابة. ينظر إليها فى توسل فتبادله النظرات فى سخط. يعرف أنه حين يخلو لنفسه سوف يضحك من هذا الموقف حتى توجعه بطنه، وسيجعله لا شك مادة للتندر مع أصدقائه. ترى ما الذى تفكر فيه الآن؟، هذه المسكينة التى تضرب على الآلة العتيقة بأصابعها الكبيرة المطلية بالمانيكير الرخيص. لطالما اعتادت أن تكتب عليها أشياء موحية بالاحترام مثل رسائل الماجستير أو محررات رسمية، أما أن تكتب قصصا عبيطة فشىء - لا شك - يبدو لها مبتذلاً ولا يليق بتلك الآلة الصارمة الكئيبة. ومن أين لها أن تعلم أن ذلك الفتى العشرينى - الذى تسقط الأوراق من يده ويبدو مثالاً حياً لكلمة «الدهولة» - سوف يسافر غداً إلى الكاتب الكبير «أحمد بهجت» بعد أن استطاع الحصول على موعد معه بمعجزة. راح يذاكر العنوان فى رأسه: مصر الجديدة، نفق العروبة، وبعدها ربنا يسهل. وأخيراً انتهت الفتاة الملول من كتابة هذا الكلام الفارغ، فتنهدت تنهيدة النجاة وهى تلتقط حقيبتها المتواضعة هاربة من هذا الكابوس. هذا الفتى اللحوح الذى يبدو وكأن قصصه الفارغة أخطر شىء فى العالم. يمسك بالأوراق المكتوبة وكأنه يمسك بقلبه، وقد خامره شعور صبيانى أن قصصه أصبحت أجمل حين انتقلت من خط يده الردىء إلى الحروف المطبوعة. لا أحد يجرؤ على الاستخفاف بمطبوعات مكتوبة بخط الآلة الكئيب الذى يشبه المستندات الحكومية. كانت البناية صامتة تماماً وهو يتعثر على الدرج. صافحه هواء الليل البارد فتوقف. ولم يطق صبرا حتى يصل إلى البيت. راح يلتهم الكلمات فى حنين على ضوء أعمدة النور الصفراء المصابة بالرمد الحبيبى، شاعراً أنها أروع شىء فى العالم. راح يتحسس الأوراق ويقرأ العناوين فى عناية: قصة مواطن مصرى، الغلاية، عصر الإنسان، جثة وبيجامة وأشياء أخرى، وغيرها من القصص التى ينوى أن يقدمها لأحمد بهجت. لا شك أنه سيُذهل من روعة القصص، لا شك أنه سيبكى من فرط الإعجاب، وربما يتنازل له عن عموده اليومى حينما يشاهد تشيكوف الجديد، عبقرى القصة القصيرة المقبل من طنطا! هكذا استغرق فى أحلامه وهو يندس تحت اللحاف البارد، حالماً بنشر قصته «قصة مواطن مصرى» بعد يومين على صفحات الجرائد! وبرغم أنه أغمض عينيه فإنه شاهد حروف اسمه مكتوبة بالبنط العريض. الجمعة 5 مارس 2010 تم نشر «قصة مواطن مصرى» فى جريدة (المصرى اليوم) بعد خمسة وعشرين عاماً من هذا الموقف. عاودته الذكريات الحميمة فلم يملك نفسه من التساؤل: «كم خمسة وعشرين عاماً تبقت من العمر حتى تتحقق باقى أحلامه؟».