أغرب ما فى كلام الأستاذ جمال سلطان، الذى نشرته نصا فى مقال أمس أنه يتصور أننى يمكن أن أعترض على كلمة مما قاله فى تحديده لمطالب الرأى العام، ربما لأنه لم يقرأ ما كتبته مرارا وتكرارا فى هذه الصحيفة وفى صحيفة «الدستور» من قبلها من دعوات متكررة إلى ضرورة التعامل مع حرية الأديان كملف وحيد لحل هذه الأزمات المسمومة، وضرورة استعادة الدولة لدورها المفقود عن عمد ولأغراض سياسية فى هذا الملف الخطير، ولا ما كتبته عن رفض المتاجرة بالدين من الشيوخ والقساوسة من أجل نفاق السلطة الحاكمة والتزلف لها، وعن ضرورة استعادة المسيحيين إلى صفوف المواطنة بعد أن أدى قمع الحريات السياسية إلى دفع المسلمين والمسيحيين معا للارتماء فى حضن التنظيمات الدينية سواء ما كان منها تحت الأرض أو فوق الأرض، بالمناسبة يستطيع أى قارئ متابع أن يعود إلى مقالاتى فى أرشيف صحيفتى الدستور و«المصرى اليوم» لكى يتثبت من صدق ما أقول، ويرى كم هو عبثى أن يطالبنى الأستاذ جمال بإعلان موقفى من أمور كتبت موقفى فيها صراحة، لكننى كتبته بهدوء ودون تشنج ودون أن أحول الأمر إلى تطاول على مقدسات أحد أو معتقداته، ودون أن أوجه تهما جزافية تصب الزيت على النار بدلا من أن تحدد مواضع الخلل وتسعى لعلاجه. ولماذا نروح لبعيد ونبحث فى الأرشيف، لقد نسى الأستاذ جمال مثلا أننى قلت فى المقالين اللذين لم يعجباه إننى أطالب الأنبا بيشوى بالاعتذار عما قاله، وإلا وجبت عليه المساءلة القانونية من الدولة، وأننى قلت أيضا فى نفس المقالين إن ما كتبه الدكتور العوا فى مقالاته محل الأزمة كان موفقا للغاية، وأننى تمنيت أن يتحدث مع أحمد منصور بالأسلوب نفسه الذى كتب به مقالاته، وأننى آخذ عليه أمرين مهمين، الأول تصديقه بالصمت حينا والموافقة حينا على واقعة الأسلحة المهربة من إسرائيل التى تحدث عنها أحمد منصور بنقله خبراً اتضح أنه مفبرك، ونشرت صحيفة «الدستور» المغدورة تكذيبا له بالمستندات بعد حلقة «الجزيرة» كنت أظنه سيدفع الدكتور العوا للاعتذار عما جاء فى الحلقة ونقله عنه الملايين الذين يثقون فيه، وليس الدكتور العوا كبيرا على الاعتذار الذى هو من شيم الكبار، وإلا فإنه بصمته يصبح موافقا على ما أثير وتجب عليه المساءلة القانونية أيضا التى لا يمكن أن يكون هناك أحد أكبر منها، سواء كان مسلما أو مسيحيا. أما الأمر الآخر الذى آخذه عليه، وعلى الكثيرين، فهو الحديث عن المسيحيين بوصفهم أقلية، وهو حديث يتنافى تماما مع فكرة المواطنة، ويفرق بين المصريين على أساس الدين، ولو فكر هؤلاء مليا وبهدوء لعلموا أن قيام الكنيسة بمنازعة الدولة فى اختصاصاتها يأتى أساسا من اعتمادها على فكرة الأقلية التى تحتاج لمن يتحدث باسمها ويرعى مصالحها، بينما لو تم تطبيق مبدأ المواطنة لانتفى هذا الدور ولتحققت المطالب التى يتحدث عنها الأستاذ جمال بقوة القانون الذى يسرى على الكل. ليست عندى مشكلة أن يدعونى الأستاذ جمال لما أدعو إليه أساسا، فسأفترض أنه لم يقرأ لى ولم يتابعنى، أو لعله أساء فهم ما كتبته، لكن المشكلة الحقيقية أن الأستاذ جمال كان يجب أن يوجه هذه الدعوة الحكيمة إلى أولئك الذين انساقوا وراء مخططات رخيصة استهدفت إشعال البلاد وإشغالها عن مخططات سياسية فى غاية الخطورة، فخرجوا إلى الشوارع تحت حراسة الأمن الذى لا يغادر مظاهرة إلا قمعها، ليوجهوا سبابا لا يقره الإسلام إلى رموز دينية مسيحية، وليصوروا المسألة على أنها قضية سيدة أو اثنتين أو حتى ثلاث تقول الكنيسة إنهن لم يسلمن، ليبدو وكأننا نريد إشعال الوطن بأكمله من أجل ثلاث سيدات نريد اقتحام الكنائس والأديرة للبحث عنهن، مع أننا نسينا ما قاله الأستاذ جمال وكان يجب أن تركز المظاهرات كلها عليه، ألا وهو دور الدولة التى يجب أن تعامل مواطنيها على قدم المساواة دون تفرقة... لأن الكنيسة ليست أصلا المسؤولة عن توضيح حقيقة ما حدث للناس، فالكنيسة مكان عبادة لا قيادة، والدولة هى التى كان يجب أن تصطحب السيدة كاميليا والسيدة وفاء والسيدة مارى ليظهرن على الهواء فى تليفزيون الدولة، ويقلن للناس إنهن مازلن على دينهن، لينتهى الجدل إلى الأبد، أو يقلن لأجهزة الدولة إنهن فعلا راغبات فى تغيير ديانتهن عن اعتقاد ويقين، وليس لأسباب أخرى، وعندها يكون من واجب الدولة أن تحمى حريتهن فى العقيدة التى أعتقد أن الأستاذ جمال لو عاد إلى أرشيف «اصطباحة» لوجدنى أكتب بالبنط الحيّانى فى نهاية إحدى مقالاتى «ياناس ياهوه، حرية الأديان هى الحل، وإلا فاعدلوا بلادنا على القبلة، أو اجعلوها ترقد على رجاء القيامة، فعندما يأتى طوفان الفتنة ليغرقنا، مش هتفرق كتير». كنت أتمنى يا أستاذ جمال ألا تكون دعوتك موجهة إلى شخصى فقط، بل أن توجهها إلى الذين حولوا الأمر إلى خناقة طائفية تتناثر فيها الاتهامات والشتائم يمينا وشمالا، دون أن نمسك بلب القضية ونسعى إلى انتهاز الفرصة لكى نبدأ فى حل تعقيدات هذا الملف الملغوم الذى يمكن أن يفجر بلادنا لا سمح الله، يا سيدى لا يمكن أن يرفض كاتب يحترم نفسه وقلمه ضرورة أن نعيش فى دولة تبسط قانونها على كل من فيها وما فيها، لكن مطالبك تحتاج إلى بلورتها فى صيغة أشمل تدعو إلى سن قوانين صارمة تغلظ العقوبات على كل من يزدرى الأديان ويهين العقائد سواء كان مسلما أو مسيحيا، وتغلظ العقوبات على كل من يقوم بالتبشير بدينه سواء بين المسلمين أو المسيحيين، لتجعل حرية الدين والعقيدة أمرا نابعا من قناعات الشخص وليس من ضغوط مالية أو اجتماعية تمارس عليه، وتدعو إلى فتح وسائل الإعلام للحوار الجاد بين المسلمين والمسيحيين لكى تصبح كل شكاوى المواطنين المسيحيين ومطالبهم مطروحة من خلال وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى وليس من خلال الكنيسة التى يجب ألا تستغل لا هى ولا المسجد فى مجال العمل السياسى، وأن تصبح المواطنة وحدها دون غيرها المنهج الذى نعالج به كل الأزمات المقبلة التى تستغلها أطراف خارجية وداخلية لتحقيق مكاسبها ومصالحها. ودعنى هنا أختم حديثى هذا بما ختمت به «اصطباحة» سابقة لعلك لم تقرأها، أقول فيها: «يا ناس دعونى أسأل: لماذا بحق عيسى ومحمد عليهما السلام لا نشكل قبل فوات الأوان فريقا واحدا نصعد به إلى تصفيات التقدم والمعرفة والصحة والعلم والنهضة والجمال؟ لماذا لا يقول كل منا للآخر قبل صافرة النهاية: يا أخى فى الوطن، لا أنت ستغير دينى ولا أنا سأغير دينك، فلماذا لا نكف أنا وأنت عن هذا الغباء، ونلتفت لمن يريدون بفسادهم وظلمهم أن يطلعوا دينى ودينك؟». والله من وراء القصد، أو هكذا أزعم. [email protected]