إن اقتصاد روسيا ينهار، ولكن الموقف قد يكون أشد سوءاً. لقد أرغمت الأزمة الاقتصادية العالمية الحكومة الروسية أخيراً على تبنى سياسات معقولة، وبالتالى تفادى الكارثة- فى الوقت الحالى على الأقل. مازالت التوقعات الرسمية لنمو الناتج المحلى الإجمالى الروسى فى عام 2009 إيجابية، ولكن أغلب المحللين، ومنهم مسؤولون حكوميون، يستعدون لركود حاد.. وبدأت علامات عدم الاستقرار السياسى فى التصاعد. وأخذت شعبية الرئيس الروسى ورئيس الوزراء فى الهبوط. وبدأت احتجاجات الشوارع الحاشدة، والتى لم تكن تحت قيادة الأحزاب السياسية المعارضة، بل قادها العمال وأسر الطبقة المتوسطة الذين يواجهون خطر فقدان الوظائف وانحدار الأجور. والأهم من ذلك أن المحتجين يطالبون باستقالة الحكومة، وهو الأمر الذى لم يكن متصوراً قبل عام واحد. يزعم منتقدو نظام فلاديمير بوتن أن النظام السياسى فى روسيا شديد المركزية ويهدد بالانهيار تحت وطأة العاصفة الاقتصادية الحالية، إذ إن الأيديولوجية التى يتبناها النظام تضع الدولة والولاء للحكام فى مرتبة أعلى من الملكية الخاصة والجدارة. وحين تضرب الأزمة بكامل قوتها، فمن المرجح أن تلجأ الحكومة إلى تأميم البنوك والشركات الكبرى، مع ما سينجم عن ذلك من ضياع الكفاءة، وبالتالى الانهيار الكامل للاقتصاد الروسى، تماماً كما حدث مع الاتحاد السوفيتى. الحقيقة أن حكومة روسيا ارتكبت أخطاءً جسيمة فى تعاملها مع الأزمة. فقد أنفقت أموال دافعى الضرائب على شراء أسهم بعض الشركات فى محاولة فاشلة لدعم أسعار الأسهم المنهارة. ومن غير المرجح أن تسترد الحكومة استثماراتها فى أى وقت قريب. كما كانت الحكومة بطيئة للغاية فى تخفيض قيمة الروبل. وفى حين أننا قد نزعم أن التخفيض الكبير لقيمة العملة مرة واحدة قد يحمل فى طياته مجازفة كبيرة- حيث إن ذلك كان ليؤدى إلى حالة عامة من الذعر- فإن التخفيض التدريجى كان من المفترض أن يبدأ فى وقت مبكر. أثناء الشهرين الأخيرين من عام 2008، سمح البنك المركزى للروبل بالانخفاض بمعدل 1% كل أسبوع، ثم بمعدل 2-3% كل أسبوع، وربما يتطلب الأمر تخفيض الروبل بنسبة 10% أخرى. وفى غضون ذلك استنزف البنك المركزى الاحتياطيات، فى محاولة للدفاع عن هذا التصحيح البطىء، بينما تشبثت البنوك المركزية بالدولار تحسباً للمزيد من الانخفاض فى قيمة الروبل. كان رفع رسوم الاستيراد الخطأ الثالث الذى وقعت فيه الحكومة الروسية، خصوصا فى قطاع السيارات المستوردة. فلم يكن ذلك من قبيل الحماقة على المستوى الاقتصادى فحسب (إذ إن صناعة السيارات، مثلها فى ذلك مثل العديد من القطاعات المتنافسة مع السلع المستوردة، سوف تستمد الحماية اللازمة من انخفاض قيمة الروبل). إلا أن هذه الأخطاء ضئيلة نسبياً وقابلة للتصحيح. والحقيقة أن حكومة روسيا وعلى غير المتوقع سارعت إلى اتخاذ قرارات اقتصادية حازمة وسليمة فى أغلبها. فنجحت أولاً فى منع انهيار النظام المصرفى. م ن المعروف أن العديد من البنوك الروسية كان مُعَرَّضا بشدة للأسواق الأجنبية، ولهذا فقد واجه مشاكل مالية حادة بمجرد وقوع الأزمة. وكان الكم الهائل من السيولة النقدية التى ضختها الحكومة فى الأسواق سبباً فى ضمان عدم انهيار أى من البنوك الكبرى، كما تعاملت الحكومة بصورة منظمة إلى حد مدهش مع فشل البنوك الصغرى. فضلاً عن ذلك فإن الأزمة لم تسفر حتى الآن عن عمليات تأميم كبرى لشركات خاصة. وكان بوسع الحكومة الروسية أن تستغل الأزمة كعذر لتأميم البنوك والشركات كلها التى تواجه ضائقة مالية. بيد أنها لم تفعل ذلك، على الرغم من احتياطياتها التى مازالت ضخمة للغاية من العملات الأجنبية، والتى تمنحها ما يلزم لشراء قسم كبير من الاقتصاد بأسعار بخسة للغاية. ولكن كيف تمت الغلبة للسياسات الاقتصادية المعقولة فى هذه الأزمة؟. إن النظام فى روسيا يدرك أن بقاءه يتوقف على منع الاقتصاد من الانهيار. ولقد أدت الأزمة إلى بث النشاط والحيوية فى النظام وحولت صلاحيات اتخاذ القرار إلى هؤلاء الذين يتمتعون بالدراية الكافية بالاقتصاد والقادرين على إنقاذه. ■ جورييف عميد كلية الاقتصاد الجديد فى موسكو. وتسيفنسكى أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة ييل. نقلاً عن جريدة «الجريدة الكويتية» خدمة «بروجيكت سنديكيت»