فى مقالى السابق، الذى بكيتُ فيه جمالَ مصرَ القديمَ حتى الستينيات الماضية، الذى اِستُبدِلَ به الآن قبح على الأصعدة كافة، البصرية والسمعية والفنية والسلوكية والفكرية والبيئية والسياسية، عاتبنى بعضُ الأصدقاء لقولى إن الراقصةَ فى أفلامنا القديمة كان راقيةً سلوكًا ولفظًا، قبل أن تدهمَ مصرَ تلك السوقيةُ التى نخرتِ الشارعَ المصريّ، الذى كان بالأمس أحد أجمل شوارع العالم. قالوا فى تعليقاتهم إن الرقصَ ابتذالٌ وعهرٌ! وتساءلوا كيف لكاتبةٍ مثلي، جعلتِ المرأةَ والارتقاءَ بها قضيتَها الأولى، أن تقول إن الرقصَ فنٌّ راقٍ؟! والحقُّ أن لا شيءَ رفيعٌ فى ذاته أو مبتذلٌ. الرقيُّ والابتذالُ يحصلان من كيفية تناول هذا الشيء، وأسلوبية صناعته. كلُّ فنٍّ حقيقيّ هو بالضرورة راقٍ، وكلُّ زائفٍ هو ركيكٌ ومبتذلٌ، ولو كان يجسّدُ الفضيلةَ ذاتَها. ذاك أن الفضيلةَ تأبى أن تمرَّ إلا عبر الحقيقيّ، والعكس صحيح. فالفنُّ التشكيليُّ، مثلا، منجزٌ إبداعيٌّ إنسانيّ. سيكون راقيًا حين يخرج من ريشة فنانٍ حقيقيّ، ويكون ركيكا مبتذلا حينما يتطاولُ عليه مُدّعٍ لا يعرفُ أسرارَ اللون والفضاء والخط. اللوحةُ التى تصوّرُ امرأةً عارية، لن تكون مبتذلةً بسبب مضمونها الذى قد يراه السلفيون باخوسيًّا إباحيًّا، لكنها ستكون ألفَ مبتذلةٍ إذا ارتكبتها ريشةٌ ضحلةٌ غيرُ موهوبة. وإلا فكيف نصنِّفُ لوحات أوجست رينوار؟ لم ير أحدٌ من نقاد التشكيل فى العالم فى نساء رينوار العاريات أيَّ لونٍ من الإثارة أو الابتذال. بل على النقيض من ذلك، حُسبَت له براعتُه فى تجسيد براءةِ حواءَ ورقيِّ أنوثتها. ذاك أن ريشتَه المدهشةَ تجبرُ عينَ المُتلقى ألا تتوقفَ عند العُريّ، بل تخترقه إلى حيث الجوهر الفاتن الشفيف للأنثى فى أجلى مستويات صفائها الروحيّ والجسدي. هنا فنٌّ حقيقيّ. ومن ثَم هنا رقيُّ وعلوّ. الشيءُ ذاته ينسحبُ على الفنون كافة، مثلما ينسحب على الرقص، بكلِّ ألوانه. أصدقاؤنا الغاضبون الذين لم يروا فى الرقص إلا صدورا وخصورا، لم ينظروا إلا إلى القشرة التى تحمى جِذْعَ الشجرةِ من الرطوبة والحشرات. لكن فتنةَ الرقص، تكمنُ فى نَسْغِه الخبىء، المُحاط بألفِ سياجٍ لا يقدرُ على اختراقِها إلا عينٌ مدربةٌ على تعاطى الفنِّ وتقديره. من قُدّر له أن يزورَ شعوبَ أمريكا اللاتينية يعرفُ كيف حَلَّتْ تلك البلادُ الفقيرةُ مشاكلَها الوجوديةَ، بل الاقتصاديةَ بالرقص. تصوروا أن بلدًا فقيرا مثل فنزويلا دخل موسوعة جينيس بوصفه الشعبَ الأكثرَ سعادة فى العالم! رأيتُ بعينى كيف يكدّون بالنهار، وبالليل يقشّرون عنهم أوجاعَهم بالميرينجى والسالسا والسامبا! واذكروا معى كيف وظّف هنريك إبسن رقصةَ التارنتيلا الإيطاليةَ فى «بيت الدُّمية» ليمهّدَ لصفقة بابٍ هزّت أركانَ الدنيا، لتعلنَ أن المرأة ليست دُميةً، بل كيانٌ راقٍ بديع يستحق أن يُقَدَّس. واذكروا أيضًا تانجو التى رقصها آل باتشينو فى «عطر امرأة» وهو كفيف، ليعلّمنا أن الرقصَ مُهذِّبٌ الروحَ. وانظروا كيف جعل يوسف شاهين الرقصَ يعالجُ أدرانَ النفس، فى فيلم عن العلاّمة ابن رشد. ثم انظروا الآن إلى نيلى كريم، كيف رسمتْ تابلوهاتٍ فادحةَ العذوبة على موسيقى «انت عمري» لعبد الوهاب. صنعت الباليرينا النحيلةُ برقصتها لوحةً شرقيةً غربيةً رعوية بدويةً هنديةً أسبانيةً. فى ثلاثِ دقائقَ قدّمت لكَ العالمَ. العالمَ الأجملَ الذى لم نره بعد. (طالع إحدى لوحات رينوار بالصفحة الأخيرة) [email protected]