وإذن مَن الذى قتلها؟ تلك الجميلةَ التى وقفَ الخلقُ ينظرون جميعًا، كيف تبنى قواعدَ المجدِ زمنا. أنهيتُ مقالى قبل السابق بسؤال هو: ماذا دهى الجميلةَ، التى ظلّتْ على فتنتها حتى الستينيات الماضية؟ كيف سمحنا أن نمشى بالمقلوب؟ نظرية «التطوّر والارتقاء«، تقولُ إنْه لابد أنْ يفرزَ الراهنُ نماذجَ أرقى من أم كلثوم وعبد الوهاب وزكى نجيب محمود وطه حسين، ومشرّفة، وأضرابهم من الدُّر النادر الكريم الذى بثقتْه مَحارةٌ حُرّة خصبة اسمها: مصر! فهل أتجاوزُ لو مددتُ السؤالَ على أقصاه لأقول: إن تلك النظريةَ ذاتَها تُحتِّم أن يفرزَ راهنُنا حضارةً أرقى من حضارة الفراعنة؟ هذا منطقُ الأمور،. لكنَّ التاريخَ عبثىٌ أرعنُ كما يقول ميرلو بونتى. يذهب البعضُ إلى أن سببَ القبح فى مصرَ الراهنةِ يعودُ إلى ثورة يوليو التى أسسّتِ الحكمَ العسكريَّ فى مصرَ، ويرى البعضُ أن السببَ يعود للزعماءِ الذين تعاقبوا على مصر؛ كلٌّ هدمَ ركنًا من أركان جمالها حتى تقوّضتْ. البعضُ يقول الانفتاح، وآخرون، قالوا هو المدُّ السلفيّ، والنموذج البترو-دولارى الذى شوّه مصرَ التى كانت منارةً للجمال والعلم حتى الأمس القريب. لكن أعجبَ ما وصلنى هو التالي، الذى على غرابتِه يحملُ وجهةَ نظرٍ جديرةً بالتأمّل. يقول، شخصٌ لم يصرح باسمه: {عطفا على ما نكرره من صعود طبقة طفيلية بأخلاقها وفنونها ومفرداتها اللغوية، وهو صحيح، إلا أننى أجد سببا لئيما دفعت به شرائح كبيرة من الطبقة الدنيا للانتقام من المجتمع بعد أن تنكر للبسطاء والفقراء. هؤلاء قرروا احتلال المجتمع بثقافة وفنون ومفردات منحطة، وبمصطلحات اليوم «بيئة». وصرنا نشاهد أكبر عملية «تبييء» المجتمع من أشخاص يتحركون بوعى ويدركون ما يفعلونه.(هنا ذكر أسماءَ بعض من يكرسون هذا التخريب من وجهة نظره). الأمر يبدو لى أخطر من مجرد طبقة طفيلية صعدت. إنها الحرب. فاسدون يفتقرون إلى الموهبة يتحكمون فى الأمور ولا يسمحون إلا بظهور عديمى الموهبة أو حتى الحرفة، فينتقم المجتمع باعتماد السوقية منهاج حياة. إنه السباق فى النزول إلى الحضيض. لقد رفضتم كل ما هو جميل وراق، فلنصبغ العصر بكل ما هو منحط وسوقي.} ولا يجوز أن نطرحَ مسألةَ قَتْلِ الجمال فى مصر دون أن نشيرَ إلى روايةٍ حديثة سرّبتْ هذه الفكرة، وإنْ على نحوٍ رمزيٍّ غير مباشر. فكرة «اغتيال» مصر. بالأحرى اغتيال جمالِها. رواية «ميس إيجيبت». حين ابتكرت سهير المصادفة، الشاعرةُ والروائية، شخصيةَ «نِفِرْت جاد»، الفتاة الفاتنة المرشّحَة لمنصِبِ «ملكة جمال مصر»، إلا أن يدًا خبيثة قتلتها ومثّلت بجسدها. ذاك أن القاتلَ لم يقصد إزهاقَ الروحَ، وفقط، بل إن مقصدَه الأوّلَ هو محوُ الجمال. وهو قتلٌ مضاعفٌ، قتْلٌ خسيس. لم تكشف المؤلفةُ رموزَ شخوصِها، وإلا غدت الرواية بيانا مباشرا وهو شرك لم تقع فيه، لكن القراءةَ الواعية لن يَخفى عليها أن الجميلةَ لم تكن سوى مصر، وأن اليدَ التى شوّهتْ جمالها، وإن ظلّ القاتلُ مجهولا حتى نهاية الرواية، ليست إلا ما أفرزه حكمُ العسكر الذى أعقب ثورة يوليو، وما تلاه من سياساتِ انفتاحٍ، ثم ضرْب المثقفين بالمدِّ السلفىّ الذى أفقرَ الوعى، وقوّضَ هيكلَ المجتمعِ، ومحا توْقَ الناسِ للجمال. [email protected]