عن رحلةِ أدائِه العُمرةَ، كتب الشاعرُ بهاء جاهين مقالا فى الأهرام قائلا فى نهايته: «نحن شعبٌ جميلٌ متحضّر. مازالتْ فينا عذوبتُنا الكامنة. إنه الفقرُ وغيبةُ سيطرة الدولة(القانون لا الأمن) هو ما أدى بنا إلى التزلّف والبهلوانية وفلسفة الهراء التى أبدعت الموسيقى المنحطّة والرقصَ المتهتك والكلماتِ التى تجتهدُ أن تصلَ إلى مَثَلٍ أعلى من السوقية. ليس المصريون من السوقة. فلماذا نُصِرُّ على أن يرانا الناسُ رعاعًا مُنْحلّين؟ عندما كان عبد الوهاب وأم كلثوم والسنباطى وزكريا أحمد وبيرم يحيون ويبدعون بيننا (أغفلَ الابنُ، حياءً، ذِكْرَ الأبِ العظيم صلاح جاهين، أحد أهمّ رموزنا)، كان المصريُّ عملاقا فى عيون العرب. فكيف غدوا يروننا، فى زمنِ أقزامِ الفنِّ، أقزاما؟!» ذكرّنى مقال جاهين برحلتى قبل سنوات للمغرب. أخبرنى استقبالُ الفندق أن بعض أدباء المغاربة الشباب جاءوا لتحيتى. وبمجرد أن نزلتُ ابتدرنى شاعرٌ: «إزيك يا أُختي؟» (مع مَطِّ حرف الياء فى كلمة «أختى»، وإشباع الضَّمة على الألف، أما حرف «التاء» فقد حارَ بين التاء والشين مثلما حرفى Ch بالإنجليزية، والمحصلة أن الكلمة غدت: «أووختشى»)! انزعجتُ جدا! وانسحبتُ. عددتُها إهانةً! استوقفنى كبيرُهم ليستوضحَ سببَ غضبى. فقلتُ: هذا خاطبنى بما لا يليق! فقال ببراءة حقيقية: هو اعتبركِ أختا له، ففيمَ الغضب؟ فأوضحتُ أن اعتراضى على الأداء، وأسلوب النطق! فاندهشَ. وقال إنهم اتفقوا على أن يفاجئونى بنطق الدارجة المصرية تقرّبًا منّى ومحبةً، وإنهم ظلوا يتدرّبون على الأسلوب كما «تفعل النساءُ فى أفلامنا»!! وسألنى: ألا تتكلم المصرياتُ هكذا؟» فأجبته: لا طبعا! إنما شريحةٌ بعينها من النساء تبتذل اللغةَ والسلوك، كما فى كل بلد آخر. ذاك هامشٌ، لكنّ «متنَ» البلدِ شيءٌ آخر. ولما جلسنا، شرحتُ لهم الفرقَ «البيّنَ» بين القروية الفاتنة، بذكائها وحدسها ولهجتها المموسقةِ العذبة؛ كما جسدتها الأسطورةُ سعاد حسنى فى فيلم «الزوجة الثانية»، والقاهرية التى تسكنُ الحارةَ الشعبية، بنبلها وشهامتها وأصالتها؛ كما جسدّتها الفاتنتان: زينات صدقى قديما، وعبلة كامل راهنًا، وبين المرأة التى تبتذلُ القولَ؛ لفقرٍ فى وعيها أو شرخ فى روحها. وأن المصريات لسن مَنْ يظهرن فى بعض الأفلام المنحطة الراهنة، التى تسىء لمصرَ وأهلِها! إن مرآةَ مصر الحقيقية، لو اعتبرنا السينما بعضَ هذه المرآة، مطويةٌ فى أفلامنا القديمة «الأبيض والأسود». حين كانت حتى الراقصةُ راقيةً فى لغتها وأدائها مثلما تحية كاريوكا ونجوى فؤاد. أما النماذجُ البشرية المشوَّهَةُ المشوِّهة التى تعجُّ بها فنون مصر اليوم، فمصرُ والمصريون براءٌ منها، مثلما نحن براءٌ من طبقاتِ خَبَثٍ طَفَتْ بِليْلِ السبعينيات فى غفلةٍ منا، ما هم إلا نتاجُ نُظُمٍ سياسية وتربوية وتعليمية وتوعوية خربتْ وعى ورقيَّ وثقافةَ بلدِنا الرفيع. والحقُّ أنكَ إنْ لم تزر بلدا، تغدو أغنياتُ وأفلامُ ومسرحُ هذا البلد، مرآتَه الوحيدة. اعتذرَ الأصدقاءُ. لكن ثمة دلالةً خطيرةً بالأمر. ماذا دهى الجميلةَ، التى ظلّت على فتنتها حتى الستينيات الماضية؟ كيف سمحنا - نحن المصريين - أن نمشى بالمقلوب؟ نظرية «التطوّر والارتقاء»، تقول إنه لابد أنْ يفرزَ الراهنُ نماذجَ أرقى من أم كلثوم، وعبد الوهاب، وزكى نجيب محمود، وطه حسين، ومشرّفة، وأضرابهم، من الدُّر الكريم النادر الذى بَثَقَتْه مَحارةٌ حُرّةٌ خصبة؛ اسمها: مصر! [email protected]