منذ نعومة أظفارى وأنا أجد صعوبة شديدة فى فهم السلم الموسيقى، وكان الأستاذ ميشيل، مدرس الموسيقى فى مدرسة ابن خلدون الابتدائية فى دمياط، ينظر إلى، وإلى من هم على شاكلتى، شذراً من خلف نظارته السميكة ويكيل لنا عبارات قاسية ونحن نردد وراءه ذلك اللحن الذى ألفه: «إسر يا قمر واسعد البصر».. كان الرجل يعتبرنا نشازاً مفزعاً وموجعاً لمشاعره الرقيقة ومؤلماً ومؤذياً لأذنه الموسيقية، لكن ماذا نصنع وهذه هى قدراتنا وإمكاناتنا؟ حاولنا أن نتصنع التجاوب وأن نوهم الرجل بأننا فى قمة الهيام والانسجام ونحن نستمع إليه وهو يعزف على قيثارته لعلنا نكسب رضاه، لكننا فشلنا.. حاولنا أن نقنع أنفسنا ونستثير ذواتنا لعل عواطفنا ومشاعرنا تتحرك، لكن «القربة كانت كما يقولون مقطوعة».. هل كانت المشكلة فينا أم فى الأستاذ ميشيل أم فى عزفه أم فى البيئة التى نشأنا فيها التى صب عليها الرجل جام غضبه؟ ربما كانت المشكلة فى كل ذلك أو بعضه، لكن تبين فيما بعد أننا نشجى للحن الجميل ونطرب للصوت الندى الرخيم.. فما الذى جرى لنا؟ هل كان ذلك عائدا لارتقاء ثقافتنا ونمو عواطفنا ونضج مشاعرنا؟ ربما.. هل لأننا أصبحنا ندرك ما يجرى حولنا من مآس وفواجع وأحزان، الأمر الذى أدى إلى ترقيق قلوبنا ورهف حسنا، فصرنا نتجاوب مع كل ما يثير شجننا ووجدنا؟ ربما.. إن من الصعب على أصحاب القلوب القاسية والمشاعر المتحجرة أن يتأثروا، فضلاً عن أن يتذوقوا الجمال الذى وهبه الله لخلقه وعباده، فقديما قالوا كن جميلاً ترى الوجود جميلاً.. لقد كانت لنا أيام الشباب الباكر صولات وجولات مع الطرب الأصيل، خاصة إذا توفرت له الكلمة الرصينة واللحن العذب والأداء الرفيع، وأظن أن دعاء الشرق وليالى الشرق وأقبل السعد ونهج البردة وأراك عصى الدمع وحديث الروح خير مثال.. صحيح ظل السلم الموسيقى بالنسبة لنا طلسما كما اللغة الهيروغليفية، إلا أننا كنا نستطيع أن نتبين النغمة الشاذة والصوت النشاز مثل ما يحدث هذه الأيام من صخب وضجيج وكلمات هابطة وأداء ممجوج.. وقد ذكر الغزالى، رحمه الله، فى «الإحياء» أن الإبل، رغم قسوة طباعها، إلا أنها تطرب للحداء الجميل، ولذلك كان رجال القوافل فى الصحراء يعمدون فى الرحلات الطويلة إلى حداء ندى، حين تسمعه الإبل، تستشعر خفة حمولتها فتنطلق فى السير بهمة عالية غير عابئة بما فوق ظهورها، فتقطع المسافات الطوال فى أقل فترة من الزمان، وحين تصل إلى نهاية الرحلة ويتوقف الحداء، يظهر فجأة أثر ثقل الحمولة ومسافة السفر، الأمر الذى قد يؤدى إلى تمزق عضلاتها. سوف تجد الأصوات النشاز فى كل البيئات والتجمعات، لكنها ليست كأصواتنا فى الماضى أيام أستاذنا ميشيل.. فالكلمة السوقية الهابطة، والموقف الذى يفيض خسة ولؤما، والسلوك الشائن والكريه، والخلق الذى لا يختلف عليه العقلاء بأنه ذميم وقبيح ، والفكر العبثى والفوضوى، كل ذلك يمثل نشازاً أو خللاً تأباه النفوس النقية وتعافه الفطر السوية.. إنها الأصوات التى تخالف الذوق العام، ولا تثبت أمام أبسط قواعد المنطق العلمى والقيمى والأخلاقى، ولا تستقيم بأى حال مع المسلمات التى توافق عليها أصحاب العقول الراجحة.. صحيح أن بعض هذه الأصوات سادت وغلبت هذه الأيام، لكن ذلك لا ينزع عنها صفة الشذوذ والنشاز من ناحية، ولا يفقدنا الأمل فى التصدى لها وتحجيمها من ناحية أخرى.. إن هذه الأصوات تلعب دوراً فى تعويق النهضة وعرقلة قيامها، بل فى إحداث مزيد من التدهور والانهيار، لذا كان من المهم أن نلقى الضوء على ماهيتها ومعالمها، لعلنا نستطيع حصارها وتقليل آثارها، حتى نتمكن من الحركة والانطلاق المأمول. قرأت كما قرأ مئات الألوف، وربما الملايين من أبناء مصر، خبر مصرع الشاب السكندرى خالد سعيد بهذه الطريقة البشعة والهمجية والوحشية، فأصابنى الغثيان وانتابنى إحساس بالقهر وغلبنى شعور بالمرارة، وحتى لا يرانى أولادى أو أحفادى أغلقت على باب غرفتى وانطلقت فى النحيب وظللت أجهش بالبكاء كالأطفال.. للأسف لم أجد ما أفعله سوى ذلك، وهذه الكلمات: كان من الممكن أن يكون أحد أبنائى أو أحفادى مكان خالد سعيد.. لقد أوجع الخبر قلبى كما أوجع قلب أمه وأبيه وأخواته وأصدقائه، بل شعب مصر كله، فما حدث يعبر بحق عن عمق المأساة والتدهور والانهيار والقبح الذى نعيشه.. لقد قرأت مقال الكاتب النابه «محمد حماد» فى موقع اليوم السابع ومئات التعليقات عليه ممن هز مشاعرهم هذا الحدث الجلل فزاد شجنى وألمى.. ثم قرأت مقالاً آخر للكاتب المدقق «أحمد الصاوى» فى صحيفة «المصرى اليوم» حول الفاجعة نفسها، فأصابنى الهم والغم والإحساس بالقلق العميق على مصر، الوطن والشعب.. وما كان لمثلى أن يتجاهل هذا الأمر أو يغض الطرف عنه بدعوى كثرة الهموم والأحزان، أو فردية الحدث.. إن المسألة ليست مجرد إنسان لقى مصرعه، فعشرات ومئات وآلاف من البشر يلقون حتفهم فى حوادث يومياً.. ورغم بشاعة هذه الحوادث وما تتركه فى نفوسنا من آلام، إلا أن حادثة مصرع خالد سعيد وأمثاله ممن يسوقهم حظهم العاثر إلى الوقوع فى أيدى وحوش بشرية لتفتك بهم على هذا النحو شىء مفزع.. هذا عمل جبان، ومن قام به بلغ أقصى درجات الخسة والندالة.. وإذا كانت امرأة دخلت النار فى قطة حبستها، فلا هى أطلقتها ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض، كما جاء فى الحديث، فأين موقع هؤلاء؟.. أتمنى مخلصا من كل قلبى أن يأخذ القانون مجراه وأن يكون هناك تحقيق نزيه وشفاف ومحاكمة تتوفر فيها كل ضمانات العدالة، حتى يطمئن الرأى العام وتعود الثقة إليه وينال الجانى ما يستحق من عقوبة.. أما إذا تصور هؤلاء أنهم أفلتوا من يد العدالة اليوم، فليثقوا أنهم لن يفلتوا، إن عاجلاً أو آجلاً، من المنتقم الجبار، مالك الأرض والسماوات.. وليعلموا أن الله يمهل ولا يهمل، فهو يمد للظالم مدا، حتى إذا أخذه لم يفلته، وليضعوا فى حسبانهم قوله تعالى: «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون...» (إبراهيم: 42).. محال أن ينهض بلد هذا هو حاله.. محال أن يتقدم بلد تستباح فيه آدمية الإنسان على هذا النحو الشائه الكريه.. سيكتب التاريخ بمداد من الخزى والعار صمتنا وتخاذلنا وجبننا وضعفنا..ستعلم الأجيال من بعدنا كيف انهارت موازين العدل عندنا وساد الظلم بيننا وانعدمت المروءة فينا.. وعلينا أن ننتظر ما سيحل بنا من مذلة وهوان. ما حدث فى انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى من تزوير فج وغير مسبوق هو فعل فاضح ومخجل فى الطريق العام، المحلى والإقليمى والدولى، والذين قاموا به أساءوا إلى مصر الوطن والشعب إساءة بالغة، وجعلوها أضحوكة الدنيا ومثار تندر كل الشعوب.. من المعلوم بداهة أن اللص المحترف يعمل لكل شىء حسابه، فهو لا يترك وراءه آثاراً تدل عليه أو تشير إليه، من بصمات أو مخلفات أو تصرفات، بخلاف الهاوى الذى يفضح نفسه حتى قبل أن يقوم بجريمته.. لقد كان من الممكن لهؤلاء أن يكون التزوير بقدر، وأن تكون الأرقام التى تمت نسبتها للسادة الفائزين معقولة ومقبولة حتى تنطلى على الناس فى الداخل والخارج، لكنهم تصرفوا كهواة.. غير أن البعض يفسر ذلك بغرور القوة التى لا تعمل حساباً أو اعتباراً لأحد أو لشىء، فضلاً عن الرسالة المراد إيصالها للجميع وهى أن «أحبابنا» فوق المنطق والمألوف وخارج حدود الزمان والمكان، وأنهم لا يخجلون ولا تتمعر وجوههم، بل هم فى قمة السعادة وذروة الانتشاء، وتلك هى المأساة.. إن حالات الاغتصاب التى تقع، فوق أنها بشعة ومخجلة وعار يشين مرتكبيها، تثير الاشمئزاز والغثيان، علاوة على أنها تخلف وراءها آثاراً مدمرة، نفسياً وخلقياً واجتماعياً، ولا يمحوها الزمن.. بالمثل تعتبر عملية اغتصاب إرادة شعب جريمة بكل المقاييس.. جريمة خزى وعار واعتداء على شرف وكرامة شعب.. جريمة تستدعى أن نقف أمامها وفى مواجهتها جميعاً.. نحن فى الواقع لا نستطيع، بعد ما حدث ويحدث، أن نطلب من أى أمة أن تحترمنا، ولو كانت تعبد البقر ويركب أبناؤها الأفيال.. من عجب أن هؤلاء، رغم الاختلاف المذهل فى دياناتهم ولغاتهم، يتمتعون بحرية ويمارسون ديمقراطية من طراز رفيع!.. إن أى حزب يتخلق فى رحم السلطة ويولد ويتربى فى حجرها وأحضانها يبدو وكأنه ديناصور ضخم متوحش مرعب، جسد كبير للغاية ورأس متناهى الصغر، ذو بصر محدود وسمع ثقيل وصوت يزمجر كأنه الرعد.. يتحرك ببطء وقسوة وعنف ودون تفكير، يهشم كل ما يصل إليه ويحطم كل ما يسير فوقه.. هذا الديناصور حتماً مآله الانقراض شأن بقية الديناصورات التاريخية التى أصبحت أثراً بعد عين، حيث بدأت تلوح فى الأفق ديناصورات جنينية سوف يكون لها دورها فى الصراع مع الديناصور الهرِم.. هذه هى سنة الله فى كونه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، كأنى ألمح ما أشار إليه الشاعر: أرى تحت الرماد وميض نار يوشك أن يكون له ضرام من عوائق النهضة أيضا تلك النماذج الكريهة التى لا تجد حرجاً فى استباحة نفسها وكرامتها، ربما من أجل لا شىء، كأنها من طينة أو عجينة غير عجينة البشر.. هذه النماذج هى الصوت النشاز أو الخلل المتغلغل فى جميع أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع، من السهل عليك أن تتعرف عليهم، فهم عادة يتميزون بمجموعة من الصفات كموت الضمير، قسوة القلب، غلظة الحس، جفاف المشاعر، لؤم الطباع، سوء الطوية، اللزوجة، الخسة، الجبن، الطفيلية، الانتهازية، الخبث..إلخ. هؤلاء يأكلون على كل الموائد، لديهم قدرة هائلة على التلون، تماماً كما الحرباء، يعتبرون أنفسهم رجال السلطة وكل سلطة، حياتهم مرتبطة بها لا تنفك عنها، هم رجال العصر وكل عصر، مرجعيتهم وطريقته م ووجهتهم هى السلطة، هم دائماً تحت قدميها ورهن إشارتها ويمثلون أدواتها ومخالبها وأظافرها.. والسلطة من جانبها تعرف جيداً كيف توظفهم وتستثمرهم وتعتصرهم، وكلما أمعنت فى احتقارهم وازدرائهم وإذلالهم، كلما ازداد هؤلاء لينا وتملقاً وطاعة وذلاً وهواناً، وإن أخطأ أو قصر أحدهم يوما غضبت عليه السلطة وطردته من رحمتها، فيغضب عليه الجميع، بعد أن كانوا يتملقونه، ويفقد من ثم كل شىء.. هؤلاء الرجال سوف تلتقيهم فى مجالات وميادين كثيرة، فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام والتعليم والرياضة والفن، فى المدرسة والجامعة والشركة والمؤسسة والهيئة والمصنع.. لا تثق بهم ولا تطمئن إليهم ولا تعطهم سرك، فهؤلاء لا أمان ولا عهد لهم وفى أول منعطف سوف يبيعونك.. اجتهد أن تحذرهم وكن يقظاً منتبها وأنت تتعامل معهم.. كن كما قال الفاروق عمر رضى الله عنه: «لست بالخب والخب لا يخدعنى»، والخب هو الخائن. من عوائق النهضة كذلك أننا نتكلم كثيراً ولا نعمل إلا قليلاً.. نحن شعب يحب الثرثرة بمناسبة ودون مناسبة.. ظرفاء وأذكياء معاً، ولدينا قناعة كاملة أنه لا يوجد شعب فى أرجاء المعمورة يجمع بين هاتين الخصلتين مثلنا!.. معروف عنا كذلك أننا لا نقرأ، فلدينا أمية ثقافية إضافة إلى أمية القراءة والكتابة.. لا بأس عندنا أن نجلس ساعات طويلة أمام شاشات التلفاز، ثم نثرثر أثناء المشاهدة، فلا نحن تابعنا ما يبثه التلفاز ولا استمعنا إلى أنفسنا.. أنظر إلى الناس وهم يتحاورون، إنهم يتكلمون فى وقت واحد ولا يسمع أحد أحداً، كأنه حوار طرشان.. قليل منا من يتمتع بفضيلة الإنصات، وأقل القليل من يفكر ويتأمل.. ثم إننا نحب الهزل والمزاح وكثرة النكات، ولو على أنفسنا، ربما لمآسينا التى نعيشها ولحاجتنا الكبرى للضحك والابتسام فى مواجهة التعاسة والبؤس اللذين قتلاً فينا الحلم والأمل فى حياة حرة كريمة.. ويبدو أن الثرثرة وضحالة الفكر وقلة العمل وكثرة المزاح تمثل منظومة أو حزمة مترابطة موصولة ببعضها.. ولاشك أن ضياع الوقت فى غير فائدة هو إحدى المشكلات الخطيرة المعوقة عن بلوغ الآمال.. كان من الوصايا الذهبية للإمام البنا رحمه الله: «الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون أخاك على الانتفاع بوقته، وإن كانت لك مهمة فأوجز فى قضائها».. وهذا صحيح، إذ بقدر ما نرتب على أنفسنا من واجبات، بقدر ما يكون، أو لا يكون، هناك وقت للفراغ.. نحن ننسى أن الوقت هو الحياة، هو الدقائق والثوانى التى تمر من بين أيدينا ولا نشعر بها.. يقول شوقى فى فلسفة الحياة: دقات قلب المرء قائلة له... إن الحياة دقائق وثوان فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها.... فالذكر للإنسان عمر ثان