أيهما أهم: الحد من الاحتكار ومقاومة الظواهر الاحتكارية، أم تشجيع المنافسة وتنشيط المناخ التنافسى فى الاقتصاد؟ قد يبدو السؤال للوهلة الأولى سخيفا أو مجرد تلاعب بالكلمات بما أن الأمرين يشكلان وجهين لعملة واحدة، وأن لدينا جهازاً قومياً حديث النشأة – اسمه جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية - يقوم بالأمرين معا، ويحمل فى اسمه ما يدل على اهتمامه بهما بنفس القدر. ولكن تقديرى أن السؤال مشروع، وينبغى التوقف عنده ولو للحظة بسيطة، لأن تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار، وإن كانا يمثلان بالفعل وجهين لهدف واحد، إلا أنهما يعبران فى الوقت نفسه عن أولويات مختلفة فى العمل وعن أسلوبين فى التعامل مع ظاهرة التركز أو الاحتكار. ولنعد إلى الوراء بضع سنوات لفهم أصل الموضوع، إذ إن جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية نشأ بقانون خاص فى مصر منذ بضع سنوات (وكانت لى فرصة المشاركة فى مجلس إدارته الأول) ليستكمل أحد الأعمدة الأساسية فيما يمكن وصفه بمحاولة بناء أسس الاقتصاد الحر فى مصر. والجهاز بهذا المعنى أحد تلك الأسس المهمة، إن لم يكن أهمها جميعا، لأنه يعبر عن فكرة ضرورة موازنة الحرية الاقتصادية بتدخل الدولة بحزم لتنظيم الأسواق ووضع الضوابط التى تكفل عدم إساءة استخدام هذه الحرية وضمان حقوق جميع الأطراف القانونية والاجتماعية. فى هذا الإطار نشأ جهاز حماية المنافسة المصرى، وانعقدت عليه الآمال فى تحقيق الهدف المرجو منه. ولكن الذى حدث أن الرأى العام استقبل هذا الجهاز بحفاوة بالغة، باعتباره سوف يقضى على الاحتكارات، ويضرب بيد من حديد على أصحاب النفوذ، وينهى سيطرة الشركات الكبيرة، بل ويؤدى بذلك إلى خفض أسعار بعض المنتجات الرئيسية التى اشتكى الناس من ارتفاعها. كل ذلك أدى إلى رفع مستوى التوقعات من الجهاز بشكل مبالغ فيه، وألقى عليه بمسؤولية تحقيق نتائج غير ممكنة. فجهاز حماية المنافسة فى كل بلدان العالم ليس مسؤولا عن ضبط ارتفاع أسعار المنتجات، ولا ينبغى تقييم عمله من خلال عدد الملفات التى يتم إحالتها إلى جهات التحقيق، وإنما يكون الحكم عليه من خلال معيار واحد فقط، هو مساهمته فى تحسين مستوى التنافس فى الاقتصاد. الأهم من ذلك أن ارتفاع درجة التوقع من الرأى العام والإعلام عن دور الجهاز فى التصدى للاحتكار كانت لهما نتيجة سلبية، وهى انصراف الجهاز الناشئ عن الجانب الآخر من مهمته – ومن اسمه – وهو تشجيع المنافسة، أو على الأقل عدم إعطاء الموضوع ما يستحقه من الاهتمام. وهنا ينبغى توضيح التفرقة بين الأمرين، بين تشجيع المنافسة ومقاومة الاحتكار. صحيح أن كليهما يرمى إلى تحقيق نتيجة واحدة، ولكن رغم أن مقاومة الاحتكار تهدف إلى حماية المنافسة عن طريق التصدى لاستغلال الشركات الكبرى لقدراتها الاحتكارية، فإن تشجيع المنافسة يهدف إلى النظر إلى كيفية تيسير دخول منافسين جدد إلى السوق بما يؤدى، بالضرورة أيضا ولكن بشكل غير مباشر، إلى الحد من الاحتكار. بمعنى آخر فإن كان الأمران يمثلان وجهين لعملة واحدة، فإن مقاومة الاحتكار هى الجانب السلبى بينما تشجيع المنافسة يمثل الجانب الإيجابى. باستخدام لغة البحث الاجتماعى، فإن مقاومة الاحتكار هى تطبيق لأسلوب الرقابة والتفتيش لفرض ظروف تنافسية، بينما تشجيع المنافسة تطبيق لمبدأ تمكين المستثمرين الجدد من الدخول إلى حلبة التنافس وتقديم البدائل التى يحتاجها المستهلك. بتطبيق ما تقدم على الجهاز المصرى لحماية المنافسة، فإن ما أقترحه تحديدا هو أن يكون الجهاز – بجانب عمله فى مجال الحد من الممارسات الاحتكارية – أكثر اهتماما بفكرة تشجيع دخول منافسين جدد إلى السوق، وأن يعتبر هذا الموضوع بمثابة الركن الثانى من عمله واهتمامه. أما عن كيفية القيام بذلك، فمن خلال مثلا التدخل للحد من صدور القرارات التى تضع حدودا مرتفعة لرأس المال المطلوب لمزاولة الأنشطة المختلفة بما يحرم المنافسين الصغار الجدد من دخول حلبة المنافسة، وإبداء الرأى فى نظام تخصيص الأراضى المعدة للاستثمار بما يضمن أن جانبا منها يكون لصالح مستثمرين جدد متوسطى الحجم، والمشاركة فى الحوار حول الحوافز التى تعتزم الدولة تقديمها لتنشيط الاقتصاد بحيث يتجه جانب منها لحث مستثمرين جدد على دخول السوق ولا تقتصر على دعم المستثمرين القائمين بالفعل، والمشاركة عموما فى خفض عوائق بدء النشاط الاقتصادى التى تعوق دخول منافسين، وبالتالى تحمى المراكز المكتسبة للمستثمرين القدامى. تحسين مناخ المنافسة فى مصر لن يتحقق بمجرد الاستمرار فى ملاحقة المحتكرين، وإنما يلزم أن يصاحبه العمل على حماية المنافسة بشكل إيجابى، لأن هذا هو ما يؤتى ثماره على المدى الطويل.