عبارة قالتها حماتى.. وكزوج مطيع لابنتها فإننى رددتها معها بدون مناقشة: إن الفائز الحقيقى فى الانتخابات الأخيرة هو الشعب الأمريكى! وقد تحدثت فى مقال سابق عن استطلاعات الرأى العام التى أشارت إلى فوز ساحق لأوباما، وقلت إن تفوقه على منافسه الجمهورى جون ماكين يتجاوز هامش الخطأ فى هذه الاستطلاعات، لكننا لا ندرى حجم «هامش الكذب» للناخبين، الذين يقولون غير مايبطنون عن استعدادهم للتصويت لمرشح أسود. وقد جاءت نتيجة الانتخابات لتؤكد التحول الهائل فى مجتمع كان يستعبد السود، ويقنن التمييز ضدهم ويمنعهم من ركوب الأتوبيسات بجوار البيض، لكنه يختار الآن وبكامل حريته رئيسا أسود. إن هذا لايعنى بالضرورة أن العنصرية انتهت تماما فى المجتمع الامريكى، فلاتزال هناك جيوب للمقاومة خاصة فى مناطق الغرب والجنوب. وقد كنت أتحدث يوم الانتخابات مع أحد أعضاء الكونجرس عن ولاية فيرجينيا، فإذا به يعرب عن مخاوفه من أن يتم اغتيال هذا الرجل الذى يمثل نقلة تاريخية فى كل ما تمثله أمريكا لنفسها وللعالم. وقد وافقنى الرأى فى أن ذلك لو حدث فإنه سيكون كارثة تفوق بمراحل حادث اغتيال الرئيس كينيدى عام 1963. لكن دعونا نتجاوز الآن تلك المخاوف، لنقف عند المعنى الأكبر لفوز أوباما. فالولايات المتحدة بكل مافيها من تنوع فى العرق واللون والدين، تمثل نموذجا مصغرا للعالم ككل. وفوز هذا الرجل الأسود هو فى ذاته احتفالية بهذا التنوع ليكون مصدرا للقوة وللثراء الثقافى والاجتماعى، وليس مبررا للتفكك والانشقاق. ونحن ننظر للولايات المتحدة كثيرا على أنها أبيض وأسود، بينما هى مجتمع متعدد الألوان. وكان من المفاجآت السارة لهذه الانتخابات، أن الهيسبانيك من ذوى الأصول اللاتينية صوتوا لصالح أوباما بنسبة الثلثين، وهو مايعنى أنهم أيضا تجاوزوا الحساسيات والمنافسات التقليدية بين الأقليات. لكن كيف سينعكس ذلك على العالم، فى وقت تزايدت فيه حدة الصراعات العرقية والدينية والمذهبية؟ كيف سينعكس ذلك على مفهوم «السيد» و«العبد» لدى البعض الذين لايزالون يستخدمون لفظ العبد لوصف الرجل الأسود، بينما هم يتحدثون بتلقائية تعبر عن تلك الثقافة الشعبية المريضة؟ إن توقيت انتخاب أوباما يقدم درسا مجانيا لأولئك الذين يدقون طبول الحرب والصراع بين السنة والشيعة، لعلهم يدركون أن القبول بالآخر هو جواز الخروج من خندق الوهم الذى يعيشون فيه. لكنى لا أعتقد أن كثيرا منهم سيعون هذا الدرس. وقد بدأت بالفعل نغمة تعلو فى بلادنا تختزل قيمة ماحدث فى أمريكا على مايعنيه ذلك بالنسبة للصراع العربى الإسرائيلى، كما لو أن العالم ليس لديه مايشغله غير قضايانا، بينما تناسى الكثيرون منا هذه القضايا. إننى أذكر هنا إعلانًا ناجحًا استخدمته حملة جون ماكين الانتخابية تصور فيه أوباما بشكل ساخر على أنه يملك عصا موسى ويشق البحر ويصنع المعجزات. ولكن يبدو أن البعض فى بلادنا صدق هذه الصورة، وتصور أن أوباما جاء ليخلصهم من مشاكلهم وصراعاتهم، بينما هم أنفسهم عاجزون عن الحركة أو الفعل. وهؤلاء لابد أنهم سيصابون بخيبة أمل شديدة، لكنهم عندها لن يلوموا أنفسهم، بل سيشيرون بأصابع الاتهام إلى أوباما قائلين: ألا ترون؟ إنهم جميعا سواء، فهذه هى الهيمنة الأمريكية، وهذا هو اللوبى الصهيونى.. وقد بدأ ذلك يتردد بالفعل مع إعلان أوباما عن تعيين رام إيمانويل رئيسا لهيئة موظفى البيت الأبيض حيث تساءل الكثيرون: كيف يمكن أن يعين يهوديا فى هذا المنصب المهم؟ ويبدو أنهم صدقوا حكاية أن أوباما مسلم، أو أن الجذور الإسلامية لأبيه تعنى أنه سيرفع لواء الجهاد ضد الصهاينة. إن الأمريكيين لم يختذلوا أوباما فى جذوره الإسلامية، واختاروه رئيسا لهم، لكننا نختزل إيمانويل فى هويته اليهودية ونتخذها دليل إدانة له ولرئيسه المنتخب. ألم أقل لكم إننا لم نستوعب الدرس؟. وفى كل الأحوال فإن الرئيس الأسبق بوش اختار جون سنونو ذا الأصل الفلسطينى لنفس المنصب، وسنونو يتحدث الآن كما لو كان ناشطا فى منظمة عربية، لكن ماذا فعل عندما كان فى البيت الأبيض؟ لاشئ. فهذا المنصب رغم أهميته ليس أساسيا فى صنع السياسة الخارجية للولايات المتحدة. لكن الضجة التى أحاطت باختيار إيمانويل كشفت عن خطأ فى التوقعات لمن يعتقدون أن أوباما سيحمل عنهم علم عروبتهم بعد أن داسته أقدامهم، أو أنه سيحارب نيابة عنهم معاركهم الوهمية أو الحقيقية. إن أوباما ليس قائدا لجماعة ثورية، بل هو سياسى منتخب فى دولة ذات مؤسسات ديمقراطية عريقة، تحكمها قواعد وحسابات معقدة فى تشكيل سياساتها الداخلية والخارجية. فهو ربما يشجع الإسرائيليين والفلسطينيين والسوريين على التوصل إلى سلام، لكنه لن يناضل من أجل الضفة الغربية أو الجولان. وهو قد يسعى للانسحاب المبكر للقوات الأمريكية من العراق، لكنه لن يحل الخلافات السنية الشيعية الكردية إذا لم ترغب تلك الأطراف ذاتها فى تسوية مشاكلها. باختصار شديد: إن العرب لم ينتخبوا أوباما، ولم يساعدوه على الفوز فى الانتخابات، بل كان ارتباطه الوهمى بهم عقبة فى طريقه الطويل إلى البيت الأبيض. فهو إذن ليس مدينا لهم بشىء، فمشاكلهم ملك لهم، وحلها بأيديهم هم. إن أوباما ليس صلاح الدين!!.