إنه ظاهرة من نوعٍ خاص فى تاريخ ثورة يوليو وحركة «الضباط الأحرار»، فهو مثقفٌ من طراز فريد يقف على قمة هرم الثقافة المصرية، ولقد ربطنى به إعجابٌ شديد - من جانبى - كضابط فذ يتعاطى الثقافة منذ شبابه، ويتحدث الفرنسية بطلاقة، ويقتحم جوهر المعرفة الإنسانية ويبحر فى كل روافدها، ولو لم يكن فى تاريخه إلا ذلك الإنجاز التاريخى الكبير فى الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة، التى غمرتها المياه المحتجزة خلف «السد العالى»، لكان ذلك فى حد ذاته كافيًا لأن يضعه فى الصف الأول من أبناء مصر العظام. إن الضابط «ثروت عكاشة» يمثل نموذجًا لا مثيل له فى تاريخ العسكرية المصرية الشامخة، ولم يكن غريبًا عليه أن يكون عنصرًا مؤثرًا فى حركة «الضباط الأحرار» موظِّفًا كفاءاته الفكرية ومهاراته الثقافية فى خدمة أهداف «ثورة 23 يوليو»، مع الأخذ فى الاعتبار صلته المباشرة «بآل أبوالفتح» أصحاب «المصرى» ودورهم معروفٌ فى تاريخ الصحافة المصرية، وهو أيضًا «ثروت عكاشة» السفير اللامع فى عاصمة الفن والجمال «روما» الإيطالية، وهو أيضًا «ثروت عكاشة» صاحب المؤلفات الرائعة فى المكتبة العربية التى تعمَّق عبر صفحاتها فى تاريخ الحضارات ومذاق الثقافات، فجعل «العين تسمع والأذن ترى» كما قال عنوانًا لأحد كتبه، ولم يتوقف عند ثقافات أوروبا، ولكنه غاص فى أعماق الفلسفات الهندية، وتعمق فى أغوار الفنون الآسيوية. ولقد ربطتنى بهذا الرجل العظيم صلاتٌ مستمرة منذ سنواتٍ طويلة حتى أرسل إلىَّ وأنا سفيرٌ لدى «النمسا» طالبًا الحصول على بعض الصور القديمة والوثائق النادرة من متحف «فيينا» الشهير، ولقد فعلت ذلك بحبٍ وفخرٍ شديدين، وعندما أرسلت إليه ما أراد وجدته مصممًا على أن يبعث إلىَّ بتكاليف ذلك، رغم أن الأمر لم يكن يزيد على عشرات الدولارات، إلاَّ أنه أصرَّ على أن يرسلها لى، ربما لأنه يستعذب أن ينفق من ماله الخاص على ثقافته وعلمه، ولقد تكرَّم علىّ فأهدانى جميع مؤلفاته الصادرة عن «دار الشروق»، ولقد حدثنى صديقى المهندس «إبراهيم المعلم» صاحب الدار عن دقة الدكتور «ثروت عكاشة» فى مراجعة مؤلفاته، والوقت الذى يقضيه فى اتصالاتٍ مع الأستاذ «أحمد الزيادي» مساعد رئيس «دار الشروق» يراجع ويحذف ويضيف، وتلك دقة العلماء وسمة المثقفين رفيعى القدر، ولعلنا نذكر أن صلة «ثروت عكاشة» بالرئيس «عبدالناصر» قد شهدت حالاتٍ من الصعود والهبوط لأسبابٍ لا مجال للغوص فيها الآن، ولكن الرجل ظلَّ على ولائه لقائد ثورته ولم ينزلق – مثل غيره- إلى ساحة الحياة السياسية، متراشقًا بالألفاظ الضخمة أو مستعرضًا بالمذكرات المنحازة، ولكنه انصرف فى كبرياء إلى رصيده الباقى وهو الفكر والثقافة، ولعل الكثيرين لا يعلمون أن الدكتور «أحمد عكاشة» أستاذ أساتذة الأمراض النفسية ورئيس جمعيتها الدولية هو الشقيق الأصغر للدكتور «ثروت عكاشة» بتاريخه العريض، ويبدو أن فيروس التميز يصيب أحيانًا بعض العائلات فيدفع منها إلى الصفوف الأمامية بشخصياتٍ متميزة فى تخصصاتٍ متباينة! وعندما أفتش فى ذكرياتى الآن فإننى أتذكر أننى قمت – وأنا نائبٌ للقنصل فى لندن عام 1972 – بعقد قران النجل الأكبر لمثقفنا الكبير «ثروت عكاشة» فى احتفال بسيط بمبنى القنصلية العامة رقم 19 ب«الكنزنجتون بالاس جاردنز» وهو المبنى الذى كان قد آل إلينا بالمقاصة مع الحكومة السورية بعد الانفصال، ويهمنى أن أسجل هنا أن أجيالاً ثلاثة على الأقل من تاريخ مصر الحديث تنظر بانبهارٍ وإكبار إلى هذه الشخصية رفيعة الشأن، وعندما أقيم حفل كبيرٌ لتكريم «ثروت عكاشة» منذ سنوات قليلة، وشرفنى منظمو الحفل بدعوتى لكى أكون متحدثًا فيه وسط حشدٍ رفيع من المثقفين المصريين والعرب والأجانب، وجدته مناسبة مواتية لكى أتحدث عن الرجل وفضله على الثقافة المصرية وشخصيته الفريدة فى تاريخنا الوطنى الحديث، وعندما دعوت الدكتور «ثروت عكاشة» لكى يكون متحدثًا فى صالون «إحسان عبد القدوس» الذى كنت أشرف عليه فى أواسط التسعينيات من القرن الماضى اعتذر الرجل بأدبه الشديد ورقته المتناهية متعللاً بظروفٍ صحية، ولكننى أدركت من خلال معرفتى له أنه لا يريد الغوص فى أوحال السياسة العربية والظروف الدولية، لأنه ينأى بكبريائه عن الدخول فى سجالٍ مع الآخرين فى غير الموضوعات المتصلة بالفكر والثقافة.. تحيةً «لثروت عكاشة» الضابط والوزير والسفير، وقبل ذلك كله المفكر العملاق، والمثقف الضخم، والوطنى البارز، والإنسان العظيم.