الليثيوم القصة الكاملة| تراجعت أسعار المعدن وبدأت التخفيضات على السيارات الكهربائية    استشهاد 8 فلسطينيين وإصابة آخرين في مخيم النصيرات بغزة    وزير الدفاع الأمريكي يشكك في قدرة الغرب على تزويد كييف بمنظومات باتريوت    أرقام قياسية بالجملة للأهلي بعد الوصول لنهائي إفريقيا الخامس تواليًا    «ونعم الأخلاق والتربية».. تعليق مثير من خالد الغندور على احتفال محمد عبد المنعم بهدفه في مازيمبي    رسالة شديدة اللهجة من خالد الغندو ل شيكابالا.. ماذا حدث فى غانا؟    طارق يحيى يهاجم مسئولي الزمالك: كله بيشتغل للشو و المنظرة    اليوم.. جلسة محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    «حماس» تتلقى ردا رسميا إسرائيليا حول مقترح الحركة لوقف النار بغزة    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    كولر : جماهير الأهلي تفوق الوصف.. محمد الشناوي سينضم للتدريبات الإثنين    "في الدوري".. موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد الفوز على مازيمبي    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    حريق يلتهم شقة بالإسكندرية وإصابة سكانها بحالة اختناق (صور)    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    حمزة عبد الكريم أفضل لاعب في بطولة شمال أفريقيا الودية    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع هيكل فى أيام يوليو فرانسوا باسيلي
نشر في المصريون يوم 10 - 06 - 2006

تقدم لنا حلقات “ أيام يوليو “ للأستاذ محمد حسنين هيكل بفضائية الجزيرة قطعة حية تنبض بإحدى أهم فترات التاريخ المصرى – والعربى – المعاصر ، فترة قيام الضباط الأحرار ب “ الحركة المباركة “ كما سميت والتى عرفت فيما بعد بثورة يوليو أو الثورة المصرية ، ولا شك أن فضائية “ الجزيرة “ قد أحرزت بهذا التسجيل المثير غير المسبوق لأدق أسرار الثورة المصرية من واقع وثائق وجرائد تنطق بما حدث ومعاينات لشخصيات رحل بعضها وما زال بعضها حياً يرزق قد احرزت سبقاً إعلامياً وتاريخياً هائلاً بعد أكثر من نصف قرن من أحداث يوليو المثيرة. إننى كمثقف مصرى عربى الثقافة والتاريخ أجد نفسى أجلس مسمراً مشدوداً كل أسبوع لأتابع أستاذنا هيكل يزيل أمام أعيننا الستائر ويحلل الأحداث ويقدم وثائق الوقائع فإذا بالتاريخ ينفض عن جسده غبار السنوات وينتفض قائماً ليسير ويتحرك ويتكلم ويتألم ويبكى ويندهش وينفعل أمامنا كأنه يحدث فى التو واللحظة . وذلك بفضل الأسلوب التلقائى الحميم الذى اتبعه هيكل فى تقديم الحدث والذى وظف فيه ثلاثة مصادر أساسية ، هى الجرائد اليومية الرئيسية الثلاثة التى كانت تصدر فى مصر وقتها وهى الأهرام والأخبار والمصرى ، ثم الوثائق الرسمية البريطانية والأمريكية والمصرية سواء كانت برقيات أو مراسلات أو وقائع جلسات أو أوراق رسمية أو مذكرات ، ثم يمنح هذا كله حيوية إنسانية حميمة حين يضخ فيها وحولها كلها مشاهداته وذكرياته وتجربته الشخصية سواء فى معايشته لهذه الأحداث فى وقتها ساعة بساعة بل دقيقة بدقيقة -يقول لنا مثلاً أنه وصل إلى منزل اللواء محمد نجيب فى الساعة كذا مساء يوم كذا ، ثم يستدرك مباشرة قائلاً .. لأ الساعة كانت كذا إلا عشر دقائق !! أو فى إدراكه للإحداث التى لم يعايشها عن طريق الاستفسار عنها من شخصيات يقابلها بعد ذلك وكانت معايشة لها . والمثال المدهش لذلك هو ما رواه مؤخراً من أنه عندما قابل زعيم الوفد فؤاد سراج الدين باشا فى السجن حينما سجنهما السادات مع حوالى خمسمائة من الكتاب ورجال السياسة ورجال الدين قبل شهر واحد من اغتياله استفسر عن إحداث بدت غامضة له قبل وبعد قيام ثورة يوليو مباشرة .. أى قبل حوالى ثلاثين عاماً من وقت المقابلة فى السجن. فالرجل إذن هو موسوعة معلومات تاريخية سياسية وثقافية متنقلة ودائمة التجدد تبحث فى كل لحظة عما تستكمل به ما نقص من معلومات وتفسيرات فى صفحاتها الهائلة الضخامة. والذى يمنح كل هذا قدراً فريداً من الأهمية مقارنة بأية كتب أو مقالات أو مقابلات تليفزيونية أخرى هو عدد من الخصائص التى ينفرد بها هيكل عن بقية الكتاب والمحللين والصحافيين والسياسيين العرب بحيث يمكن أن نقول أنه نسيج وحده لا يشبه ولا يشبهه صحافى أو مثقف عربى أخر فى نصف القرن الأخيرة.. هذه الخصائص هى : - ذاكرة فوتوجرافية لا شك أن قدرة الأستاذ هيكل على تذكر الأحداث بتفاصيلها الدقيقة بالتاريخ والساعة والموقع هى قدرة مدهشة حقاً فهو يتذكر مثلاً ماذا كان يرتدى اللواء محمد نجيب عندما زاره هيكل فى بيته ليلة الثورة ، وماذا قال له ، ومن كلمه تليفونياً وكم مرة ، ثم نوع السيارة التى استقلها محمد نجيب متحركاً نحو مكان لقاء الضباط الأحرار . وفى أى شارع كان اللقاء فى محطة بنزين هى الآن الموقع الفلانى ، وهذه كلها أحداث وقعت منذ أكثر من نصف قرن ! هذه القدرة الفائقة على اختزان التفاصيل عن الشخصيات والأماكن ودقائق حدوثها تمنح شهادته مصداقية كبيرة وتمنحنا نحن فرصة نادرة لمشاهدة الحدث عن قرب شديد وبصورة مجسمة أقرب ما تكون من المعايشة الحقيقية له. - غريزة صحافية :- يملك الأستاذ هيكل غريزة صحافية مرهفة فهو شديد الفضول ليس لمعرفة ما يحدث فقط ولكن الأهم معرفة لماذا يحدث فتفسير الأحداث هو همه الدائم وهاجسه الوجودى الأساسى ، وتمكنه غريزته الصحافية المرهفة هذه من اشتمام الأحداث قبل وقوعها والتحرك للتواجد فى الأماكن التى ستقع بها. فتدفعه غريزته الصحافية إلى زيارة محمد نجيب فى بيته ليلة تحرك الضباط الأحرار فى الساعة التى كان فيها نجيب ينتظر أن يبلغه الضباط بأنه قد تم لهم الاستيلاء على مركز قيادة الجيش لكى يذهب إليهم ، وهكذا نجد هذا الصحافى الشاب يتواجد فى اللحظة والمكان الذى يتواجد به من سيصبح بعد يوم أو أكثر بقليل القائد المعلن للحركة المباركة، ثم يصبح أول رئيس لجمهورية مصر فى التاريخ. - ثقافة موسوعية :- قليل هم الكتاب الذين يتحدثون إليك فى السياسة بنفس المقدرة والحماس والحساسية التى يتحدثون بها فى الثقافة ، وفى التاريخ وفى الجغرافيا وفى الشعر والأدب والرواية والمسرح ، وقليلون من يمكنهم التنقل بين هذه كلها بخفة ورشاقة كما يفعل هيكل ، الذى يفاجئنا فى وسط حديثه السياسى بأبيات من الشعر العربى يحفظها عن ظهر قلب ، أو بوصف لمسرحية لبرنارد شو ، أو بكلمة مأثورة قالها تشرشل أو ديجول أو بمقال كتبه كاتب مصرى أو مفكر عربى ، أو بإشارة إلى رواية لنجيب محفوظ ، أو حوار مع توفيق الحكيم . وتقوم هذه الثقافة الموسوعية بتعميق فهم هيكل للحدث السياسى ولدوافعه الإنسانية وهو همه الأول. - شخصية جذابة :- تمنحنا أحايث هيكل بأسلوبها الحالى فرصة الاقتراب منه بشكل إنسانى حميم لأنه يتحدث بشكل مطول بتلقائية لابد أن تظهر من خلالها ملامح خصاله الشخصية ، وقد لفت نظرى فىهيكل شئ لا تجده بكثرة فىالمشاهير فى العالم العربى وهو أدبه الجمّ ، فالرجل الذى حقق مكانة فريدة بين الكتاب والصحافيين والسياسيين العرب هى بالتأكيد مكانة عالمية وعلى أعلى المستويات أى على مستوى المعرفة الشخصية والصداقة لعدد كبير من زعماء العالم فى المجالات السياسية والعسكرية والصحافية والفكرية ، هذا الرجل تجده لا يتحدث عن أشخاص آخرين إلا بأدب ولياقة واحترام يثير الدهشة حقاً فهو يذكر رئيسه فى العمل فى جريدة الإجيبشيان جازيت فى مطلع شبابه بالكثير من الاحترام وكأن الرجل ماثلاً أمامه ، وكأنه شخصياً لم يتجاوز بتاريخه وإنجازاته الشاهقة إنجازات ومكانة رئيسه هذا الذى لا يعرفه أحد اليوم. وتلاحظ أنه كثيراً ما يذكر اسماء الشخصيات المصرية التى يتحدث عنها بألقابها مثل باشا وبك ، أو الأستاذ ، وتلاحظ أن لديه حرجاً شديداً عندما يضطر إلى الحديث عن بعض الأحداث المشينة لأصحابها فتجده يكاد يعتذر لهم وعنهم ، هذا بينما تعج الفضائيات ببرامج يتحدث فيها من هم أقل موهبة ومكانة وإنجازات من هيكل بعشرات المرات بشكل ملئ بالاستهتار بالأخرين والتجريح لهم والبذاءة فى حقهم. هذا الأدب الشخصى ، بالإضافة إلى جاذبية إنسانية حميمة تنضح بها كلمات وملامح وأفكار هيكل ، وتشف عنها مشاعره المتجلية ، هى كلها مجتمعة ما منحت هذا الرجل تلك القدرة الفذة على مصادقة ومقابلة هذا العدد الهائل من زعماء وقادة العالم فهؤلاء لا يجلسون مع أى إنسان. ولابد أنهم رأؤا فى هيكل شخصية محببة تعطى قدر ما تأخذ وتفيد بقدر ما تستفيد وتحتفظ للصداقة بحقها وللأخلاق بمكانتها وللأدب والدماثة بدورهما وللاحترام بضروراته ففتحوا له أبواب قصورهم ومكاتبهم وقلوبهم ، مما أمكنه فى النهاية أن ينقل لنا أعمق ما فى دخيلة هؤلاء القادة بأسلوب بالغ الجمال والصدق والقدرة على التوصيل والتواصل. مع الأدب والدماثة لابد أن نلاحظ التواضع الجميل فى شخصية هيكل ، قارن مثلاً أسلوب حديثه المؤنس المبسط المنساب بلا انفعال ولا غطرسة فارغة ولا دوران حول الذات بأسلوب رجل الثورة الراحل حسين الشافعى الذى شاهدناه فى نفس الفترة يتحدث مطولاً فى برنامج “ شاهد على العصر “ فى نفس فضائية الجزيرة ، دون إقلال بمكانة ودور حسين الشافعى بالطبع ، فهنا أقارن فقط بين أسلوب هيكل المتواضع الجذاب الإنسانى المتعاطف وبين أسلوب معظم الذين يظهرون فى البرامج من المشاهير الذين لا تجد فى معظمهم سوى مجموعة من أمراض الغطرسة والتعالى وعدم احترام الأخرين ، ومع هذا كله لا يقولون شيئاً له قيمة لنا نحن المشاهدين. - الملك المقامر :- استطاع هيكل أن يرسم لنا صورة إنسانية مأساوية للملك فاروق بقدر كبير من الموضوعية والتعاطف مع عدم الإخلال بأولوية الحقيقة التاريخية .. وكنت وأنا أستمع بنهم إلى هيكل يروى مأساة الملك فاروق أعود فى كل مرة مع الذاكرة إلى طفولتى المبكرة التى يحتل فيها الملك فاروق مكاناً لم أكن اتصور أن يكون موجوداً بها . فقد كانت عائلتنا تذهب كلها لقضاء الصيف فى أبو قير حيث يملك جدى .. والد أمى كابينة خشبية من دورين بناها بنفسه هناك ، وما تزال فى ذاكرة طفولتى تقبع هذه المشاعر التى كنت أحسها كلما ركبنا القطار من أبو قير ، وهى مصيف هادئ صغير وقتها يبعد أقل من ساعة عن الأسكندرية – فيمر بنا القطار على أول محطة وهى المعمورة ، وكانت وقتها مزارع للنخيل على شاطئ البحر ، ثم يمر بعدها مباشرة على محطة المنتزة ، وهى محطة قصر الملك فاروق ، وكانت المحطة تختلف عن محطة أبو قير فى أنها كلها أرضاً وأبنية من الطوب الأحمر الفاتح دقيق الصنع بالغ الأناقة . وكان القطار عادة يبطئ وهو يعبر محطة المنتزة هذه بطئاً شديداً – ربما حتى لا يزعج الملك أو حاشيته بالداخل ولو من بعيد بأقل ضوضاء ، وبهذا كنت أستطيع التأمل فى السور الشاهق بالغ الفخامة للقصر الملكى ، كما أرى مبنى مجاوراً للمحطة كان يقبع بداخله “ ديزل “ خاص بالملك إذا ما خطر له أن يركب القطار . أو ربما لنقل أمتعته الملكية . وكان قطارنا الشعبى يمر من أمام الباب الحديدى المذهب الكبير لحديقة القصر فنلمح بداخله حدائق خضراء بالغة التنسيق والنظام بما لم نكن نراه فى أى مكان أخر . وهكذا كانت علاقتى كطفل مصرى فى مرحلة التطلع والتفتح وحب الاستطلاع الطفولى بملك مصر هى علاقة يرسمها ويحدها هذا السور بالغ الارتفاع الذى يحتوى الملك بداخله فى عزلة واستعلاء ملكى خاص ويبقينى خارجه كواحد من عامة الشعب أنا وكل أهلى – باعتبارنا شعب الملك ورعيته التى يملكها هى و الأرض التى عليها ، فالملك فاروق لى ولجيلى كما كان أبوه من قبله– هو شخصية خرافية من عالم أخر غير عالمنا . هو أقرب إلى الألهة منه إلى البشر ، لذلك لا يتنازل ولا يجلس معنا ويكلمنا ولا يأكل مثلنا ولا يلبس مثلنا وله ان يتحلى بأخلاق غير أخلاقنا وبثقافة غير ثقافتنا ، وقد علمنا من أحاديث هيكل كيف كان كل المحيطين بالملك المديرين لشئونه الخاصة من الأجانب ، من الألبان ومن الطليان ، بل كان فاروق هو أول ملك فى سلسلة أبائه وأجداده يتكلم العربية! والطريف أنه عند هجرتى من مصر بعد انهيار حلم الثورة ووصولى إلى نيويورك لأول مرة ، كان أول كتاب ألمحه فى إحدى المكتبات بالشارع الخامس عن الملك فاروق ، باعتباره الملك الشهير بحب القمار والنساء ، ولاحظت أن بعض الأمريكان كان يستخدم عبارة استنكار ينفى بها أنه مغامر أو زير نساء بقوله “ أتظننى الملك فاروق ؟ “. - الضابط الثائر :- لم يتحدث الأستاذ هيكل بعد عن جمال عبد الناصر بالتفصيل ، ولكن من حديثه عن الملك فاروق يمكننا بسهولة أن نسقط من بالنا الأسطورة التى ما زال يرددها البعض عن عدم شرعية الثورة المصرية ، وإنها مجرد انقلاب قام به “ العسكر “ وكأن ملوك مصر كانت لهم أيه شرعية !! فما شرعية هؤلاء الأجانب الذين لم يتكلموا لغة الشعب ! وهل جاء كل منهم إلى عرشه برغبة الشعب الذى سطا الملوك وأجدادهم على أراضيه ؟ هل كان أحد منهم يفعل شيئاً لصالح هذا الشعب المغتصب المقهور . إن للضابط عبد الناصر شرعية تعلو ألف مرة على شرعية الملك الذى ثار ضده وأطاح به فعلى الأقل كان عبد الناصر ابن شعبه وجزءاً منه . كان له على الأقل شرعية الانتماء كما أصبحت له بعد ذلك شرعية الانحياز لأحلام فقراء مصر ، برغم أخطاء وتجاوزات لا يصح انكارها. والواقع أن المقارنة بين الملك المقامر والضابط الثائر هى مقارنة يفرضها التاريخ الذى جمعهما معاً ، ففاروق هو أخر ملوك مصر الفعليين ، وجمال عبد الناصر هو أول رؤساء مصر الفعليين – إذا ما تغاضينا عن محمد نجيب الذى جاء به الضباط الأحرار بعد نجاح حركتهم فى ليلتها الأولى – فالذى أطاح بالملك فعلاً هو ناصر وليس نجيب ، والغريب ان الملك فاروق وجمال عبد الناصر كانا فى سن متقاربة ، فقد ولد ناصر عام 1918 ، وبعده بعامين ولد فاروق ، ومات فاروق عام 1965 عن خمسة وأربعين عاماً ، بينما مات ناصر عام 70 عن إثنين وخمسين عاماً..
فكلاهما لم يعش كثيراً ، ولكن يمكننا أن نقارن ما فعله كل منهما ، فنسأل ماذا فعل فاروق لمصر ؟ ولا يمنحنا التاريخ مشروعاً كبيراً واحداً يحتسب لملك مصر الأخير فقد كان جلّ اهتمام الرجل هو التنقل بين قصوره فى القاهرة والأسكندرية ، وبين نساء غرامياته وبين موائد القمار والرحلات الباذخة إلى أوربا والإفراط فى الطعام والبذخ ، ولم تكن مصر ولا شعبها فى حسابه إلا باعتبارها جزءاً من متاعه الشخصى ، والنتيجة أنه لم يقم بإنجاز أى شئ له قيمة لصالح مصر . ودفع بالجيش المصرى إلى حرب فلسطين دون استعداد لها ، ولم يعتزل العرش بعد هزيمة جيشه ولا قام بتغيير نمط حياته المترفة الباذخة ، أما الضابط الثائر فقد حارب ببسالة وجرح فى حرب فلسطين ، ثم رجع منها ليكون حركة الضباط الأحرار فى رفض جرئ لفساد الملك وللاحتلال الإنجليزى معاً ، وبينما خشى فاروق أن يقوم بأى عمل يقاوم حركة الضباط الأحرار خوفاً على حياته ، وضع ناصر وجماعته حياتهم على أكفهم من أجل مبادئهم ، وقاموا بحركة كان يمكن أن تنتهى بإعدامهم جميعاً ، ومع ذلك فقد مارس هؤلاء الشبان درجة عالية من ضبط النفس ، ورفضوا إسالة الدماء بلا مبرر . وقاموا بتوديع الملك المخلوع وداعاً عسكرياً وملكياً كاملاً ، وسمحوا له بالخروج مع أفراد عائلته وثرواتهم وذهبهم إلى الخارج. هؤلاء “ العسكر “ تصرفوا بشكل هو أكثر شهامة وإنسانية وعزة من تصرفات الملك وحاشيته ، ولاشك أن من حارب وحوصر وجرح فى جيش بلاده يملك من المصداقية والشرعية أكثر مما يملك ملك ولد فوجد نفسه وريثاً لعرش فى بلد ليست هى بلده ولا بلد عائلته ولم يشعر يوماً أنه جزء من شعبها. مما لا شك فيه أن ناصر استطاع ان يكتسب بعد ذلك مشروعية إضافية استنادا إلى كل ما فعله هو وضباط حركته من إصلاحات وإنجازات لصالح فقراء مصر وأغلبيتها الكادحة ، فراحت تتوالى المشروعات الزراعية والصناعية والمدنية والهندسية واحدة وراء الاخرى ، وعلى رأسها بناء السد العالى الذى أعتبرته إحدى مراكز الأبحاث الغربية أحد أهم عشرة مشروعات هندسية فى العالم فى القرن العشرين . هذا بالإضافة إلى مساهمة الثورة فى دفع حركات التحرر لعشرات البلدان فى افريقيا وأسيا وامريكا اللاتينية والتى اتخذت كلها من ثورة مصر نموذجاً يدفعها للمطالبة باستقلالها وقد كان. فرق هائل إذن بين رجلين متقاربين فى السن كثيراً ولدا على أرض مصر ، ولد أولهما فى قرية “ بنى مرّ “ الصغيرة من عائلة بسيطة ، واختار أن يكون ضابطاً فى جيش وطنه ، ثم أن يكون ثائراً على الأوضاع الفاسدة البائسة من حوله ليقدم إلى بلده بعدها على مدى خمسة عشر عاماً كماً هائلاً من الانجازات العملاقة التى وضعتها فى موقع قيادى لحركة عدم الانحياز العالمية بالإضافة إلى موقعها القيادى فى الأمة العربية . بينما ولد الأخر فى قصر ملكى فوجد نفسه أميراً وارثاً لعرش فى دولة لم يكن والده يتكلم لغة شعبها ، فعاش داخل قصوره فى عزلة ورفاهية سرعان ما أدت إلى الإفراط فى اللهو والبذخ وحتى فى الطعام حتى مات فى النهاية وهو يتناول طعامه فى افراط انتحارى وهو فى الخامسة والأربعين من عمره. يقدم لنا هيكل فائدة وخدمة تاريخية كبرى.. يكشف لنا حقائق التاريخ فتسقط أمامنا الأساطير التى كانت تصور ما قبل الثورة على أنه عصر ديمقراطية زاهية جاء العسكر فقضوا عليها ولم تكن تلك سوى مظاهر مضحكة لألعاب سياسية بهلوانية يقوم فيها الملك بعزل رئيس الوزراء كل بضعة أشهر ويقوم بحل مجلس الأمة كلما غضب عليه ، بينما ترك عامة الشعب من الفلاحين تحت رحمة الإقطاعيين من الباشوات الذين سطا أجدادهم على أراضى مصر ووزعوها على أنفسهم وعاشوا عالة على عرق وكدح الفلاحين البسطاء لأجيال طويلة. استطاع هيكل أن يسقط اساطير الشرعية الملكية لملوك وافدين لم يحيطوا أنفسهم سوى بالأجانب ولم ينتموا يوماً لآلام أو أحلام المصريين . كما استطاع – بمجرد تواجده الشخصى وحديثه التلقائى البسيط والباهر فى نفس الوقت – أن يسقط الشرعية عن قطاع كامل من أشباه الكتاب وأشباه الصحافيين. ونحن فى انتظار المزيد من الرجل الفذ الذى لم يكن مجرد “ شاهد على العصر “ بل كان وما يزال أحد أهم صانعى أحداثه. [email protected] مفكر مصري يقيم بالولايات المتحدة الأمريكية

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.