استحق الصحفي المخضرم- كما يحب أن يسمي نفسه- محمد حسنين هيكل عن جدارة, لقب الأستاذ الكبير, فهو بحق أستاذ كبير, عاصر- كصحفي نابه ومهتم ومتابع- عصور فاروق وناصر والسادات, وقد تجاوز كثيرا متابعة الصحفي إلي مشاركة السياسي, ووصل فيها إلي منصب وزير الإعلام في آخر عهد عبدالناصر, ولقد دفع هيكل في حالات كثيرة ثمنا باهظا لمواقفه المبدئية, ففصل ومنعت كتبه أحيانا وذاق مرارة الاعتقال, ومازال عطاؤه فياضا في عصر مبارك علي طوله, والحق أقول إن الأستاذ هيكل حظي باحترام لم يحظ به صحفي آخر علي امتداد تاريخ الصحافة المصرية الذي يقترب من المائتي عام, فقد تميز الأستاذ بإنصافه لمخالفيه, ومواقفه المستقلة والموضوعية ووطنيته التي ليست محل نقاش. المهم أن الأستاذ هيكل لم يكتف بتسجيله لخبراته ومشاهداته في عشرات الكتب المنشورة والمشهورة. وطبعا لقد كتبت العشرات من الدراسات وكتب عشرات السياسيين مذكراتهم عن تلك الفترة وهو إلي ذلك يملك ذخيرة هائلة من المشاهدات والخبرات والوثائق, التي جمعها من خلال عمله كصحفي كبير من ناحية, ومن خلال اقترابه من صانع القرار وقمة جهاز الدولة من ناحية أخري, فضلا عن متابعة مهنية ودقيقة لما تنشره وزارات الخارجية في الدول ذات الصلة, من وثائق سرية تبعا لقوانينها مع قدرة فذة علي التحليل والنفاذ لما وراء الأحداث وقراءة ما بين السطور, بالإضافة إلي تدفق ثر في المعلومات وذاكرة حديدية أدامها الله عليه ومتعه بالصحة. المهم أن الأستاذ هيكل لم يكتف بتسجيله لخبراته ومشاهداته في عشرات الكتب المنشورة والمشهورة, بل قيض له أن يروي تلك المشاهدات والخبرات عبر برنامجه الشهير في قناة الجزيرة:' مع هيكل.. تجربة حياة', يسعد المرء بمشاهدته ومتابعته, كما كان آباؤنا يتلهفون علي قراءة مقاله الشهير' بصراحة' صباح كل جمعة بالأهرام0 غير أن أهم ما ألاحظه علي تجربة هيكل, هوالتصميم الخاص للأحاديث والذكريات والانتقائية الشديدة للمشاهدات والتجارب, التي يعرضها الأستاذ الكبير, والتي غالبا تدور حول السياسة الخارجية, فهو يصول ويجول في العلاقة بين مصر والدول العربية ومؤتمرات القمة العربية, وعلاقات جمال عبد الناصر بالحكام العرب, ويسهب في الحديث عن الأزمات اللبنانية, ويتناول هذه الأيام أزمة أيلول الأسود بين الأردن والمقاومة الفلسطينية, ونادرا ما يتطرق إلي الشئون الداخلية المصرية, وإن كنت أذكر عددا من الحلقات تناول فيها بعض الشؤون الداخلية كموضوع' عملية توليد نظام يوليو القانوني من رحم النظام الملكي' والتي تمت علي يد: علي ماهر والسنهوري وحافظ عفيفي, وكانت حلقات رائعة, وكذلك حلقات تناول فيها ما جري بمصر يوم وليلة تنحي عبد الناصر في التاسع من يونيو1967 وأنا لا أريد أن اعدل علي الأستاذ الكبير لا سمح الله ولكني كمهتم بالشأن العام ومتابع لتطور نظامنا السياسي وحياتنا بمختلف أبعادها من ناحية, ومن ناحية ثانية فإنني مؤمن بأن ما نحياه من مشاكل وأزمات وظواهر ليست منبتة الصلة بماضينا القريب, منذ أن تغيرت حياتنا ونظامنا بعد ثورة يوليو0 وطبعا لقد كتبت العشرات من الدراسات وكتب عشرات السياسيين مذكراتهم عن تلك الفترة, فقد كتب السادات وعبد اللطيف بغدادي وخالد محيي الدين ومحمد نجيب واحمد حمروش ويوسف صديق وسيد مرعي وموسي صبري واحمد بهاء الدين, وعشرات غيرهم, وهي كلها مذكرات القت أضواء لابأس بها علي هذه الفترة أو تلك, وهذا الحدث أو ذاك, ومع ذلك فإن معظم تلك الكتابات تعاني قصورا سببه أن الكثير منها يتسم بعدم الموضوعية, نتيجة لمحاولة تصفية الحسابات مع هذه القوة أو هذا الشخص, وربما تميل إلي تضخيم دور الكاتب وإظهاره بمظهر الصانع الحقيقي للأحداث لولا تواضعه وجحود الآخرين, وقد يقتصر بعضها علي جانب واحد من جوانب الصورة دون إدراك لجوانب أساسية أخري لم يكن الكاتب فاعلا فيها0 المهم إنني أتمني يعود الأستاذ هيكل, بما يملك من وثائق وقدرة فذة علي التحليل ودرجة من الموضوعية تنبع من حرصه علي دوره كصحفي متابع وليس مشاركا, إلي تناول همومنا وأحداثنا الداخلية ومنها مثلا: قضية حرب اليمن وكيف تقررت والأزمات والحوارات التي دارت بسببها, وحقيقة استقالة السيد كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة واحد ابرز الضباط الاحرار, وبالمناسبة فإن الأجيال الجديدة من الشباب لا تعرف شيئا عن مصائر مجلس قيادة الثورة وأسباب اقالة البعض واستقالة البعض الآخر والتنكيل بالبعض الثالث, بالاضافة الي الظروف التي ادت الي القبض علي مئات المثقفين اليساريين واعتقالهم لسنوات عديدة دون محاكمة وما تعرضوا له من بطش وتعذيب وتجويع تجاوزهم الي عائلاتهم, وكيف وصلنا إلي وضعنا العسكري المنهار قبل هزيمة يونيو, وقصة انتحار أو اغتيال المشير عبد الحكيم عامر, ولماذا لجأ عبد الناصر إلي بناء تنظيم طليعي سري رغم وجود الإتحاد الاشتراكي وطبيعة الاجابات أسئلة من نوع ماهو الفرق بين التنظيمين إذا كانت السلطة الحاكمة نفسها هي التي تنظم وتجند وتحدد المهام والمسئوليات, وغيرها من الأحداث والسياسات التي لابد من أن نفهمها, لان التاريخ في حقيقته حلقات مترابطة لايمكن فهم المعاصر فيه دون فهم مقدماته, حتي لا نظل نعيش ابدا في دائرة مفرغة من الحوادث وتكرارها0