استحق الصحفى المخضرم- كما يحب أن يسمى نفسه- محمد حسنين هيكل عن جدارة، لقب «الأستاذ الكبير»، فهو بحق أستاذ كبير، عاصر- كصحفى نابه ومهتم ومتابع- عصور فاروق وناصر والسادات، وقد تجاوز كثيرا متابعة الصحفى إلى مشاركة السياسى، ووصل فيها إلى منصب وزير الإعلام فى آخر عهد عبدالناصر، ولقد دفع هيكل فى حالات كثيرة ثمنا باهظا لمواقفه المبدئية، ففصل ومنعت كتبه أحيانا وذاق مرارة الاعتقال، ومازال عطاؤه فياضا فى عصر مبارك على طوله، والحق أقول إن الأستاذ هيكل حظى باحترام لم يحظ به صحفى آخر على امتداد تاريخ الصحافة المصرية الذى يقترب من المائتى عام، فقد تميز الأستاذ بإنصافه لمخالفيه، ومواقفه المستقلة والموضوعية ووطنيته التى ليست محل نقاش. أما جهده المهنى فلا شك أنه لم يدانه صحفى آخر، ويكفى أن يضع تحت تصرف النقابة ثلاثين مليونا من الجنيهات لإنشاء معهد لتدريب الصحفيين، ومنذ عام أو بعض عام فاجأنا الأستاذ هيكل برغبته فى الانصراف والصمت، بحجة أنه قد قال كل ما لديه وأودع شهادته على التاريخ كتبه ومقالاته العديدة. ولكنه تحت إلحاح عشرات الكتاب وملايين الناس عاد بقوة، من خلال برنامجه الشهير على قناة الجزيرة «مع هيكل تجربة حياة»، الذى يحظى بأعلى نسبة مشاهدة بين برامج القناة الشهيرة، وفيه يعيد هيكل قراءة التاريخ بحرفيته وموضوعيته وسخريته وتوثيقه المعروف والمعهود وأسلوبه الفذ والفريد، على الرغم من بعض الأقلام التى تهتم بتجريح تجربة هيكل واتهامه بالتبرير- وهى تهمة تاريخية له- واتهامة بقراءة الأحداث من جانب واحد أو بأنها قراءة مغرضة على كل حال. وأنا هنا، وانطلاقا من مكانة الأستاذ وقامته، ودوره المشارك والفاعل فى الأحداث السياسية منذ بداية ثورة يوليو، أحب أن أضع أمامه بعض التساؤلات حول صفحة أراها قاتمة شديدة القتامة من تاريخ ثورة يوليو، ولا يعنينى بالأساس فكرة الاعتذار، فقد تكفلت به الأحكام القضائية، وإنما يعنينى الحقائق التاريخية من ناحية والدروس المستفادة من ناحية أخرى. والصفحة القاتمة هنا تتعلق بالاعتقالات السياسية، التى طالت الآلاف من كوادر وأعضاء اليسار المصرى، منذ آخر الخمسينيات حتى منتصف الستينيات، ومن العجب أنهم لم يسعوا للانقلاب على السلطة الناصرية أو اغتيال ناصر كما فعل الإخوان، بل إن العديد من فصائلهم كانت تؤمن بعبدالناصر وتؤيده وترى إمكانية تحقيق الثورة الاشتراكية من أعلى، ومنهم أيضا من لم ينتم إلى أى تنظيمات سياسية من الأساس، ومنهم مثلا لويس عوض، الذى كان يرى أن التنظيمات قيد على المثقف المبدع. ورغم هذا فقد ذاق هؤلاء اليساريون الوطنيون فى معتقلات عبدالناصر كل صنوف القهر والإذلال وكسر إرادة الإنسان وإنسانيته، مما لم يكن يخطر على بال عتاة الفاشية والنازية، والإهانة والتجويع لا للمعتقلين فحسب بل لأسرهم أيضا من خلال الفصل والتشريد والحرمان من أى مصدر للرزق.. وتروى ثريا حبشى فى شهادتها كيف اعتقلوها وهى تترك ثلاثة أطفال صغار أصغرهم لم تكمل عامها الأول بلا راعٍ إلا رحمة الله، وكانت أهم رسائل التعذيب أنه لا حدود له حتى الموت، وبالفعل مات تحت التعذيب شهدى عطية الشافعى وفريد حداد ومحمد عثمان ولويس إسحاق وغيرهم. أقول هذا بمناسبة انتهائى من قراءة مذكرات، فوزى حبشى «معتقل كل العصور»، ومنذ أن قرأت فى منتصف السبعينيات كتاب الراحل فتحى عبدالفتاح «شيوعيون وناصريون» وأنا أشعر بشغف شديد لقراءة مذكرات كل من ذاق مرارة الاعتقال فى تلك الفترة، ومن هنا فقد قرأت مذكرات إلهام سيف النصر، وطاهر عبدالحكيم، وفخرى لبيب، وسعد زهران، وصليب إبراهيم، وفكرى الخولى، وصنع الله إبراهيم، والسيد يوسف، وعبدالحكيم قاسم، بالإضافة إلى عشرات الشهادات والرؤى التى قام بتوثيقها مركز البحوث العربية. وقد هالتنى تلك الدرجة من التجرد من كل المشاعر الإنسانية، وذلك الخروج على كل الأعراف والقوانين والقيم من نظام شعاره «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد». ولست ممن يذهبون إلى أن عبدالناصر لم يكن يعرف، إذ كانت أوامر الاعتقال تصدر ممهورة بتوقيعه شخصيا، «اعتقال فلان ومن معه»، وكان ذلك كله فى ظل وزارة البكباشى زكريا محيى الدين، أحد كبار الضباط الأحرار. ولم يكن المعتقلون من عوام الناس وآحادهم، بل كانوا خيرة شباب الوطن ومثقفيه، حصل الكثير منهم على الدكتوراه فى وقت كان فيه حامل الابتدائية يزهو بدرجة الأفندى، وكان معظمهم ممن يملأون الأرض علما وفنا وأدبا وثقافة، وهل أذكر إلى من ذكرت: فؤاد مرسى وإسماعيل صبرى عبدالله ونبيل الهلالى ومحمود العالم وعبدالعظيم أنيس وزكى مراد وفؤاد حداد وحسن فؤاد وألفريد فرج ونبيل زكى وفيليب جلاب ومحمود السعدنى ورفعت السعيد وقدرى حفنى ولويس مليكة وماجد عطية وعبدالمنعم عبيد وحمزة البسيونى وعبدالمعبود الجبيلى ومحمد حمام وعلى الشريف، وغيرهم عشرات. والسؤال هنا: كيف استطاعت السلطة الناصرية حل التناقض بين سعيها لمواجهة الإمبريالية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهى تضع رموز تلك القضايا خلف قضبان المعتقلات؟ وثانيا: ماذا يمكن أن نسمى تلك الإجراءات التى تتجاوز الأيديولوجيين إلى التنكيل بآلهم وأطفالهم؟ وأخيرا: ما هو الثمن الذى دفعناه ودفعه الوطن نتيجة تلك الإجراءات، حتى نتعلم من تجربة حياتنا ونجنّب أبناءنا ذلك المصير الأسود. [email protected]