■ الظاهر أننى قد تحولت إلى إنسان «حسود» و«سماوى»، فكلما سافرت إلى دولة من الدول المتقدمة، ورأيت مظاهر الحضارة «الحديثة» فيها أغار غيرة شديدة، وأقول فى نفسى «جاتنا نيلة فى حظنا الهباب» حظنا من أجواء ملوثة وشوارع قذرة وأرصفة مهدمة، وأطعمة مصنعة من محاصيل رويت بمياه «المجارى». صحيح أن المظاهر لا تصنع حضارة، وإنما الحضارة هى التى تصنع المظاهر، أى أن الأصل هو الحضارة الحديثة والمتمثلة فى الإبداع والابتكار والاختراع والإدارة إلا أننى مع ذلك وجدتنى أحقد على المظاهر كما أحسدهم على الجواهر. ■ مرت بخاطرى الأغانى العظيمة التى نتغنى بها فى حب مصر، «مصر هى أمى» «أصله معدّاش على مصر»، «مصر مصر تحيا مصر» «يا نيل يا ساحر القلوب»، و... و... أغان لم يتغن شعب من الشعوب فى حب بلده بمثيلها، وكأن المصريين هم أكثر الشعوب عشقاً لبلادهم. وطالما أن الأمر كذلك فما الذى جعلنا نلوث هواءها، ونتلف منشآتها ومرافقها وننثر القاذورات فى شوارعها، ونطلق القوارض والحشرات فى طرقاتها، إنها معضلة، كيف يستقيم كل هذا الحب لمصر مع ما نفعله بها؟ أتتنى الإجابة بعد طول تفكير عندما تذكرت قول الشاعر: «أغارُ من نسمة الجنوبِ على محياك يا حبيبى» لابد أننا نغارُ على مصر غيرة شديدة جعلتنا نفعل ذلك بها. ■ لابد لنا أن نتخلص من هذه الغيرة القاتلة ونبدأ فى حب مصر بطريقة أخرى ولا نخشى عليها من إظهار مفاتنها للعالم أجمع بل نجملها فى أعيننا وأعين العالم أجمعين. وفى ذات الوقت لا نريد لها أن تكون «من بره الله الله ومن جوه يعلم الله»، نريد لها أن تكون «من بره الله الله ومن جوه - أيضاً الله الله»، نريد أن يكون جمالها نابعاً من حضاراتها، نريد لها أن تصنع حضارتها، لا تحاول نقل حضارة الآخرين، فالحضارات لا تُنقل ولكنها تُصنع بيد أصحابها. ■ فالتجمُل والتزيُّن والاهتمام بالمظهر فى المصايف والمشاتى، والشواطئ والشوارع والمبانى على أهميتها، لا تقيم حضارة ولكنها نتائجها، تدل عليها، وتشير إليها، فالأصل من «جوه» باستثناء حالة وحيدة وفريدة سائدة فى مصر، والتى لا ينعكس فيها الداخل على الخارج، وهى حالة معظم الشقق التى تسكنها الطبقة الوسطى والشعبية، فغالباً ما تجد سكانها يهتمون بشققهم من الداخل وينصرفون تماماً عن الاهتمام بالمرافق المشتركة للمبنى الذى يسكنونه فلا يهتمون بشكل المبنى، ولا سلالمه أو مصاعده، ولا أعتقد أن السبب الرئيسى هو ضيق ذات اليد بقدر ما هو انصراف من السكان عن الاهتمام بالشؤون المشتركة، والعزوف عن الاهتمام بالشأن العام لمساكنهم، ولعل غياب هذه الثقافة كان له أثره بصورة عامة على صنع الحضارة فى مصر. ■ الحضارة الحقيقية لدولة ما لا تتحقق إلا بالإبداع، والابتكار، والاختراع من خلال خصوصية الثقافة فيها، من لغة وعادات وتقاليد وعلوم متراكمة وشخصية مميزة، فتكون لها سماتها المميزة لها، ونحن فى مصر نمتلك كل هذا، لنا ثقافة تميزنا - وإن كانت قد تشوهت - ولنا لغة ثرية قادرة - وإن كانت قد ضعفت - ولنا تقاليد وقيم عليا تجمعنا - وإن كانت قد اهتزت - وأنا لا أرى سبيلاً لاستعادة حضارتنا والحفاظ عليها وتنميتها إلا من خلال إحياء وتطوير كل هذه العوامل وسأضرب مثلاً واضحاً بلغتنا الجميلة التى أضعفنا قدرتها بجهلنا، انظر إلى الأجيال الجديدة وضعفهم عن التعبير بها، انظر كيف أصبح يستعاض عن كلماتها بتعابير أجنبية، حتى وصل الأمر إلى تسمية محال وشركات ومنشآت بأسماء أجنبية خالصة. ■ البعض يقول إن الحضارة الغربية هى صناعة الديمقراطية، وما تفجره من حرية الإبداع والفكر والابتكار، ويقولون أيضاً إن الديمقراطية صناعة تربية، ولا يرون سبيلاً إلا بالنقل عن الغرب، وحجتهم - كما ذكرت - أن الديمقراطية صانعة لحضارات هى منتج غربى، والحقيقة أننى لا أرى ذلك، وإن كنت أتفق معهم أن الديمقراطية تسمية غربية وليست صناعة غربية. فالديمقراطية كقيمة هى قيمة إنسانية عالمية، وكانت موجودة فى المجتمعات العربية البدوية، والتى كانت تُؤمر عليها من ترى فيه الحكمة والعقل، وتعتقد فيه القدرة على إدارة شؤون القبيلة، والناظر إلى مكة مثلاً قبل نزول الإسلام، وكيف كانت تحكم وتُدار بمجموعة من شيوخ القبائل وذوى الرأى فيهم ودار الندوة يتبين له صحة قولى. وعندما جاء الدين الإسلامى، أكد عليها حين أمر الرسول الكريم بأن يشاورهم فى الأمر، وهو المعصوم من عند الله فكيف بغير المعصومين من الخلفاء والأمراء الراشدين أو غير الراشدين، فالشورى واختيار الأمور أو الانتخاب بالمعنى الحديث كانت موجودة على مر العصور فى كل بلدان العالم. ■ عندما قال الشاعر «أنا إن قدر الإله مماتى لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى»، كان يقصد بالممات زوال الحضارة، والحضارة إن لم تُطور نفسها وتحدثها ماتت، وكان يقصد أن مصر وهى صاحبة السبق فى الحضارات القديمة قادرة على أن تحافظ عليها وتطورها وتقود الشرق بحضاراتها، وهذا أتفق فيه مع الشاعر، ولكنى أختلف معه فى الشق الثانى، فقد ماتت حضارة مصر ولم يتحقق قول الشاعر، فها هى دول من الشرق تصنع حضاراتها وترفع رأس الشرق بدلاً عنا، نُريد أن نغار منهم ولكن ليس بطريقة الغيرة من «نسمة الجنوب».