حددنا أن من أهم ملامح التحول فى سياسات الأمن القومى فى ظل إدارة بوش الثانية التوجهين التاليين: أولا، الاتجاه للواقعية فى التعامل مع المشاكل الدولية، وثانيا، نسبية تطبيق «عقيدة بوش»، الآن دعنا نتعامل مع التحول الثالث وهو العودة إلى التحالفات الرسمية التقليدية والشرعية الدولية. واحد من أكثر الجوانب التى يمكن الحديث عن تراجعها ضمن «عقيدة بوش» هو العمل الأحادى أو الانفرادى ضد التهديدات والأخطار بغض النظر عن التحالفات التقليدية أو الشرعية الدولية. كان الرئيس بوش واضحا فى خطابه عن حالة الاتحاد فى عام 2002 حين أكد عزمه على العمل منفردا أو مع حلف تقوده الولاياتالمتحدة عندما يمتنع المجتمع الدولى عن مواجهة تهديدات قائمة، عندما قال: «لن أنتظر توقع الاحداث بينما تتجمع الأخطار. لن أقف مكتوف الأيدى بينما يقترب الخطر أكثر وأكثر». وقد اندفع الرئيس بوش إلى ذلك تحت تأثير قناعات راسخة فى واشنطن لدى المحافظين الجدد الذين يعتقدون بأن الشرعية يجب أن تتأثر بأثر رجعى بدلا من أن تدفع بقرار من مجلس الأمن. ورأى المحافظون الجدد فى إدارة بوش أنها تلعب دور «المهيمن الخير»، الذى يقدم السلع العامة التى لا يستطيع تقديمها باقى المجتمع الدولى. والحقيقة أن مبدأ الأحادية أو العمل الأحادى فى عقيدة بوش من أهم الجوانب التى تثير بعض الخلاف، فمنذ البداية لم تطرح الإدارة التخلى عن الأحلاف أو العمل خارج التحالفات كمنهج فى القيادة الدولية، وإنما أعلنت أنها ستقوم بتفعيل تلك التحالفات حين تعتقد أهمية تفعيلها، وطبقا لرؤاها الخاصة وتصوراتها للتهديد، ولكن بشروعها فى غزو العراق دون قرار من مجلس الأمن، ظهر التحرك الأمريكى وكأنه عمل انفرادى، وربما يكون الجانب الأهم هو رؤية وزير الدفاع السابق رامسفيلد، وفى مقال له بعد أحداث 11 سبتمبر بشهرين ونصف الشهر بعنوان «نمط جديد من الحرب»، تحدث رامسفيلد عن طبيعة الأحلاف المطلوبة فى الحرب على الإرهاب، مؤكدا أن: «هذه الحرب لن يشنها تحالف كبير موحد يسعى لهدف محدد بإلحاق الهزيمة بمحور قوى معادية، وبدلا من ذلك ستشمل تحالفات عائمة متبدلة لدول عدة يمكن أن تتغير وتتخذ أشكالا مختلفة. وفى هذه الحرب ستقوم المهمة بتحديد التحالف وليس العكس». إذن كان التصور فى وزارة الدفاع منذ البداية أن طبيعة الحرب ضد الإرهاب تقتضى «تحالفات عائمة» وليس «تحالفات مستقرة» على غرار التحالفات التقليدية مثل حلف الناتو، وهى تحالفات تفرضها «المهمة» و «المصلحة» وليس تحالفات «القيم» أو «العقائد»، لذلك كان هجوم رامسفيلد الشديد على دول أوروبية أعضاء فى حلف الناتو مثل فرنسا وألمانيا لرفضهما غزو العراق ووقوفهما ضد صدور قرار من مجلس الأمن يجيز الغزو. ولعل هذه هى نقطة التغير الرئيسية فى فترة بوش الثانية، فالجديد ومنذ نهاية فترة ولايته الأولى فى أواخر 2004، أخذ الرئيس بوش فى إعادة تحالفات بلاده وعلاقاتها الدولية، على خلفية تصاعد خسائر الحرب فى العراق. وقد تتبع إدارة بوش تكتيكات أكثر ذكاء من خلال توريط الأوروبيين معها فى أحلاف وعمليات مستقبلية ذكية لا تسقط الأنظمة، ولكن تحاصرها على الدوام، فبينما كان الرئيس بوش يتحدث عن الأممالمتحدة كدعامة دولية حيوية لنجاح استراتيجية النصر فى العراق كان مساعده فى نيويورك يهدد بخنقها، وفى الوقت الذى أصرت فيه الولاياتالمتحدة على تعاون سوريا الكامل مع لجنة التحقيق حول اغتيال الحريرى، بل حذرت من أنها قد تضطر إلى العمل خارج الأممالمتحدة. هنا تم تأسيس عقيدة كوندوليزا رايس حول أنماط الدبلوماسية القهرية من أجل تحويل النظام الدولى وهى مختلفة تماما عن مفاهيم رامسفيلد.