ذكرنا أن أهم ملامح التحول فى سياسات الأمن القومى فى ظل إدارة بوش الثانية جاءت فى التوجهات التالية: أولا، الاتجاة للواقعية فى التعامل مع المشاكل الدولية.. والآن نتعامل مع التوجة الثانى وهو: نسبية تطبيق «عقيدة بوش». يمثل مبدأ «الحرب الاستباقية» أو «الإجهاضية» أو «الوقائية» أو ما سمى ب«عقيدة بوش» عماد استراتيجية الأمن القومى لإدارة بوش فى الفترة الأولى، وهو من أكثر المبادئ التى ثار بشأنها الجدل، وذلك لأن هذا المبدأ طرح خلال حربى أفغانستان والعراق. وقد تم شن الحربين كعمل أمريكى انفرادى. مما أصبغ مبدأ بوش بطابع هجومى وبتفسير أحادى لمصادر التهديد. ومثلت تجربة الاحتلال العسكرى للدولتين عبئا على المبدأ. وربما هذا هو ما يدفع البعض لاعتبار مبدأ بوش قد تآكل أو تصدع أو مات، وربما المقصود هنا هو صعوبة تكرار تجربة الاحتلال العسكرى والانفرادى بشكل خاص. يؤكد فرانسيس فوكوياما أن «عقيدة بوش تبدو متثاقلة فى فترة ولايته الثانية، ومن غير المحتمل أن يبقى لها تأثير دائم على السياسة الخارجية الأمريكية فى الإدارات المقبلة، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية. وأفضل طريقة لتقدير ما إن كانت عقيدة بوش ستطبق من جديد فى المستقبل هى معرفة إلى أى حد ستكون الولاياتالمتحدة مستعدة للتدخل مرة أخرى بشكل انفرادى لإسقاط النظام فى دولة مارقة تنشر السلاح النووى؟ والإجابة تأتى من إدارة بوش نفسها، التى تخلفت بعيدا عن المواجهات العسكرية مع كل من كوريا الشمالية وإيران لمصلحة مناهج متعددة الأطراف، مما يدل على أن عقيدة بوش لن تحيا فى فترة بوش الثانية». من ناحية أخرى فرق جون لويس جاديس، المؤرخ الأمريكى المعروف للعلاقات الدولية، بين «الاستباق» و«الإجهاض»، على أساس أن الاستباق يعنى القيام بعمل عسكرى ضد دولة على وشك شن هجوم (وهو أمر مشروع قانونياً)، أما «الإجهاض» فيعنى بدء الحرب ضد دولة قد تفرض مثل هذه الأخطار عند مرحلة مستقبلية محددة. ويرى جاديس أن الجديد هو دمج إدارة بوش بين المفهومين، فكان التمييز القديم بين «الاستباق» و «الإجهاض» أحد الضحايا الكثر ل11 سبتمبر. ويؤكد أن هذا المبدأ وجد ليبقى ولكنه دعا إلى مزيد من الإقناع للرأى العام، لأن تدعيم النفوذ لا يستلزم القوة فقط ولكن يستلزم أيضا غياب المقاومة، أو بتعبير كلاوزفيز «الاحتكاك»، فأى فرد قام بتشغيل سيارة أو مركبة يعلم حاجتها للتشحيم والذى بدونه سوف تتوقف السيارة عاجلا أو آجلا، وهذا كان مفقودا خلال فترة إدارة بوش الأولى، أى قدر مناسب من الاهتمام المكافئ للتشحيم فى الاستراتيجية، وهو الإقناع. ومن الناحية الرسمية، لم يصدر عن إدارة بوش ما يلغى أو يبطل الإجهاض أو «عقيدة بوش». ويلاحظ هنا أن هذه العقيدة لم يتم تطويرها من خلال وزارة الخارجية التى تقلص دورها فى عهد كولين باول، وإنما من خلال وزارة الدفاع بالأساس، وتؤكد الوثائق العسكرية الصادرة عن وزارة الدفاع على التطوير والتعميق فى «عقيدة بوش» من منظور التفكير العسكرى، وتعميق النظريات التى ترسخ تلك الاستراتيجية، بل إن مختلف وثائق وزارة الدفاع تضع هذه العقيدة من المسلمات التى يجرى تطوير القدرة الدفاعية والعسكرية الأمريكية على أساسها، ومن ثم عملت وزارة الدفاع على هدى عقيدة بوش حتى تولى روبرت جيتس وزارة الدفاع. كان من الصعب تغيير العقيدة عمليا فانتهى الأمر ببزوغ رايس إلى إخضاعها تماما إلى وزارة الخارجية. إذن ظلت «عقيدة» بوش قائمة، ولكن كانت «نسبية» فى تطبيقها، وصارت تحتاج إلى حالات فجة وصارخة أو حالات على درجة من الضعف تمثل إغراء لواشنطن، ولم تكن عقيدة مطلقة تجاه كل الأعداء والتهديدات، بل بدأ تطوير من داخل العقيدة نزولاً على وقائع عالم متغير، كما تقلصت النزعة للاحتلال العسكرى لاعتبارات عملية.. فحينما تعرضت سوريا للضغط الشديد بعد تقرير ميليس، وصعدت إيران لهجتها ودخلت فى مواجهة مع أمريكا من خلال تصريحات الرئيس الإيرانى بشأن ضرورة نقل إسرائيل إلى أوروبا وإنكار المحرقة، مما دفع بالمسألة النووية الإيرانية للواجهة، وكان هناك تصور فى العالم العربى بين بعض القوى السياسية العربية بالاستعداد والترحيب بقدوم المارينز. لاحظنا أن عقيدة بوش تحولت إلى تطبيق سياسات العزل الدبلوماسى والاستراتيجى وليس الغزو، ولم يأت المارينز. وقصة العلاقات الأمريكية السورية الإيرانية هى قصة طويلة تقول لنا باختصار إن أمريكا فضلت استخدام آليات الضغط الإقليمى والدولى والمناورات الدبلوماسية وبناء التحالفات الإقليمية للردع، أى العودة للدبلوماسية متعددة الأطراف كأساس لتغيير السلوك الدولى ورأينا هذا فى توافق المعتدلين فى العالم العربى الذى قادتة رايس. فى قول دقيق تقلصت النزعة العسكرية الأحادية والاحتلال العسكرى فى ظل فترة بوش الثانية، وتم السعى بدلا من ذلك إلى عزل الدول والأنظمة وتغيير سلوكها على غرار تغيير سلوك النظام الليبى وسلوك النظام السودانى.