ويشير المعلم الأخير فى سياسة الأمن القومى عند إدارة بوش الثانية إلى عقيدة «البنتاجون». ربما يتضح مما سبق أن هناك تحولاً كبيراً فى استراتيجية الأمن القومى الأمريكى أو أن هناك تراجعا عن قناعات ما بعد 11 سبتمبر، فلم يصبح مبدأ «محاربة الطغيان» حتى نهاية إدارة بوش جزءا من عقيدة وزارة الدفاع، إذ توضح الوثائق الأخيرة للبنتاجون خلال عامى 2005 و2006، 2007 و2008 عن استمرارية القناعات الخاصة بالحرب على الإرهاب ولكن بوسائل مختلفة. فتم استمرار التأكيد على: 1- «أن أمريكا أمة فى حرب»، أن أى حرب تدخلها أمريكا هى حرب طويلة المدى وأن هزيمة التطرف يتوقع أن تتطلب عقودا من العمل. 2- «عدم إمكانية التنبؤ بالتحديات الأمنية فى ظل بيئة متغيرة»، هذا السياق تم استخدام عبارات مهمة فيه، مثل: «يمكننا تحديد الاتجاهات ولكن لا يمكننا التنبؤ بأحداث معينة بدقة»، «علينا أن نخطط والمفاجأة فى عقولنا»، علينا التحول من نموذج «التخطيط القائم على التهديد» إلى نموذج «التخطيط القائم على القدرات»، 3- «هناك حدود سياسية لمفهوم السيادة»، حيث لا يمكن الاحتماء بالحدود والسيادة كمتراس تتحصن به الدول لتعتبر نفسها حرة فى القيام بأنشطة تفرض تهديدات ضخمة على مواطنيها، أو جيرانها أو باقى المجموعة الدولية، 4- «إن الحرب الاستباقية أساس عقيدة الدفاع»، ويمثل ذلك مع تأكيد وثائق الوزارة على استمرار العمل الانفرادى إذا كان ذلك ضروريا. كما أكدت تقارير البنتاجون المختلفة أن هناك قدرا كبيرا من الاستمرارية والتراكم والتعميق لأفكار وزارة الدفاع، وتمثلت فى القيم التالية وهى: 1- طمأنة الحلفاء والأصدقاء بشأن هدف الولاياتالمتحدة وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها الأمنية، 2- إثناء القوى المعادية عن التجهيز أو تبنى برامج أو عمليات يمكن أن تهدد المصالح الأمريكية أو مصالح الحلفاء أو الأصدقاء، 3-ردع العدوان من خلال توفير ونشر القدرة التى تتمكن من التصدى الساحق للهجمات، وفرض عقوبات صارمة على القدرة العسكرية لجيش الخصم وبناه التحتية الداعمة، 4- إلحاق الهزيمة الماحقة بأى خصم فيما لو فشل الردع. ولا يمكن لهذه القيم أن تعمل بكفاءة فى سياق أن الجيش الأمريكى صار «ممطوطا» فى أفغانستان والعراق وغيرهما من الدول. الأمر فى السنوات الأخيرة من الإدارة أدى بها إلى إدارك مبدأين استراتيجيين، وهما: أولا، أن «بقاء الحرية فى بلدنا يعتمد بدرجة كبيرة على نجاح الحرية فى الخارج»، وثانيا، أن «الانتخابات هى أكبر شاهد عيان على مجتمع حر، ولكن الانتخابات وحدها غير كافية»، وهذا فتح الباب لعودة الدبلوماسية فى السيطرة على مقتضيات الدفاع القومى، وربما لهذا جاء روبرت جيتس ليقود وزارة الدفاع لخلفيته المخابراتية والدبلوماسية والعلمية. الآن فى نهاية هذه المقالات نرى بوضوح أن إدارة بوش الثانية عملت كمقدمة طبيعية وضرورية لإدارة أوباما. فالتحول فى الاستراتيجية لم يأت فجأة بل يتكون على مهل بصرف النظر عن مدى إدراك القيادات الاستراتيجية فى المنطقة العربية والشرق الأوسط لهذه الحقيقة. وربما كانت دول الهامش العربى، وهى إيران وإسرائيل وتركيا وإثيوبيا، أكثر حساسية بالتغيرات البطيئة التى حدثت فى واشنطن خلال إدارة بوش الثانية من الدول العربية بشكل عام. أما بشأن الدول العربية، فالسعودية كانت أسبق من مصر فى التأكد من حقيقة التحولات فى الأمن القومى الأمريكى، ربما يرجع ذلك إلى أن مصر فى ذلك الوقت بشكل شبه شامل منهكة على جبهتين، وهما جبهة الإصلاح الداخلى وجبهة التوازن الإقليمى. الأمر الذى جعلها مشغولة بفنيات وتكتيات الحرب على الجبهتين. فى وقت كانت الدبلوماسية المصرية فيه مشغولة بأفكار غير خلاقة فى رؤية التحولات العالمية والأمريكية مما أضعف دور الجهاز الدبلوماسى كمدخل حاسم فى صناعة القرار القومى الاستراتيجى الكلى، فأدى ذلك إلى علو لمؤسسات أخرى سواء تجارية أو أمنية أو إدارية للموارد القومية كالكهرباء والمياه. فى سلسلة المقالات المقبلة نحلل محاولات إدارة أوباما الاستفادة من تحولات إدارة بوش الثانية، وإلى أى مدى ما نراه يمثل عالماً دبلوماسياً واستراتيجياً جديداً، ومدى ما يمكن لمصر أن تحققه فى ظل ذلك لإشباع أمانيها القومية وتحقيق أمنها القومى.