وجاءت أهم ملامح التحول فى سياسات الأمن القومى فى ظل إدارة بوش الثانية فى التوجهات التالية: أولاً، الاتجاه للواقعية، ثانياً، نسبية تطبيق «عقيدة بوش»، ثالثاً، العودة إلى منطق التحالفات والشرعية الدولية، رابعاً، محاربة الطغيان كقضية أمن قومى، خامساً، عقيدة جديدة للبنتاجون تتمثل فى مكافحة الإرهاب مع ردع العدوان. أولاً - الاتجاه إلى الواقعية، انطلقت سياسات الأمن القومى فى الفترة الأولى للرئيس بوش من رؤية أيديولوجية للواقع الدولى لا تأخذ فى الاعتبار هذا الواقع كما هو، وإنما الواقع المتصور أو المتخيل. ومنذ قدوم إدارة بوش الابن انصرف الحديث فى واشنطن من التعاون الدولى والالتزام البناء والمجتمع الدولى إلى الحديث عن «تغيير النظام» و«الحرب الوقائية» و«تحالفات الراغبين» و«التفوق الأمريكى» وتم رفض وانتهاك واستبعاد الاتفاقيات والأعراف والمعاهدات الدولية على أساس أنها تقوض قوة الولاياتالمتحدة وتعرقل رسالتها. وتركز هذا التحول فى التخلى عن منهج «تغيير العالم أخلاقياً» إلى الواقعية أو التعامل «مع العالم كما هو». تراجع بوش عن الراديكالية فى السياسة الخارجية حتى صارت السياسة الخارجية فى فترة بوش الثانية تبدو أكثر واقعية، ونعى بعض المحافظين الجدد «ثورة بوش» وصاروا يرون أنها فقدت حيويتها على التغيير، وهذا ما ذهبت إليه دانييلا بليتكا من «مؤسسة أمريكان إنتر برايز»، معقل المحافظين الجدد، ويرجع البعض جذور هذه التحولات إلى ما قبل عامى 2004 و2005، فقد أورد عالم السياسة جوزيف ناى، عالم السياسة الشهير، إشارة بالغة الدلالة فى محاضرة له مع نيوت جينجريتش فى عام 2003، حين رأى أن التحالف داخل الإدارة بين ما سماه المحافظين الجدد والويلسونيين (أنصار الحرب من أجل السلام) الجدد والجاكسونيين (أنصار الحرب من أجل أمن أمريكا العالمى)، ينهار إثر نتائج الحرب فى العراق. من الناحية الموضوعية فإن التحول إلى الواقعية يحدث استجابة لردود الفعل المقبلة من الواقع الحقيقى كرد فعل على تطبيق سياسات الواقع الافتراضى. فنتائج تطبيق القراءات الأيديولوجية والنظريات الأكاديمية فى البيئات الإقليمية (العراق مثلاً) أرجعت صدى معاكساً يؤدى إلى إعادة صياغة القناعات والاستراتيجيات القائمة فى عقل صانع القرار، وعلى سبيل المثال، فإن الوضع فى العراق والخسائر التى منى بها الجيش الأمريكى أضافت تعديلات وقناعات جديدة عملت على تفكيك القراءة الأيديولوجية للواقع، كما أن نتائج تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادى ونشر الديمقراطية بالشرق الأوسط، التى أثمرت عن فوز حركة حماس فى الأراضى الفلسطينية وعن ثقل برلمانى للإخوان المسلمين فى مصر سوف تؤدى إلى قناعات جديدة بخصوص أفكار نشر الديمقراطية. ولاشك فى أن تعامل إدارة بوش الثانية مع فوز حركة حماس هو أكبر دليل على مثل هذا التغيير. ففى البداية أعلنت اعتراضها على مشاركة الحركة فى الانتخابات باعتبارها – وفقاً لها – حركة «إرهابية»، ولكنها تعاملت مع الفوز الكاسح للحركة بواقعية. هكذا، فإن الواقع الإقليمى والدولى يولد قناعات جديدة تحدث ثغرات وفجوات فى الاستراتيجية المغلقة التى تم إطلاقها فى الفترة الأولى. أحد أهم التحولات فى إطار أيديولوجية ما يمكن تسميته «عبء الاستراتيجية» ويعنى أن كل طرح أيديولوجى يهزمه الواقع الذى أنتجه. وتم فرض الواقع الجديد على استراتيجية التعامل مع العراق كأرضية لمكافحة الإرهاب حيث أضحت الولاياتالمتحدة الآن مسؤولة عن تجربتين هما أفغانستان والعراق، وهو ما يفرض عليها التزامات عديدة. كل ذلك دفع إلى تفكيك الأيديولوجيا التى وجهت سياسات الأمن القومى خلال الفترة الأولى إلى مجموعة جديدة من الوقائع التى تصبح منفصلة إلى حد كبير عن التصور الأولى للاستراتيجية. وتطورت الاستراتيجية الدفاعية للجيش الأمريكى فى ظل روبرت جيدز لتصبح قائمة على أرضية من الحركة والتغيير وليس على الجمود على نحو ما تفرضه التحديات والتهديدات من الأنماط الجديدة غير التقليدية للأمن القومى.