فى هذا الجزء الثالث والأخير، من تحليل العوائق الإقليمية والدولية التى تمنع مصر، بشكل مقصود واستراتيجى، من التوصل إلى توافق فلسطينى - فلسطينى يكون مقدمة حاسمة لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة فى الضفة والقطاع، تعيش إلى جانب الدولة الإسرائيلية فى سلام، دعنا نذكر العامل الخامس والأخير، وهو العامل الأمريكى. فى إطار الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة التى، حتى الآن، لا نعلم لها ملامح محددة كمنهج لإقامة الدولتين، وهى الاستراتيجية التى وعد أوباما بأنه سوف يكشف فى خطابه فى القاهرة فى الرابع من يونيو القادم بشكل شامل عن معالم واتجاهات وأسس تكسر حالة الجمود والبلبلة التى يعيشها مشروع الدولة الفلسطينية المستقبلية وتخلق الإمكانية الفعلية لإقامتها، إلا أنه يمكن القول بأن هناك ملامح أولية تتجمع لتشير نحو بزوغ صياغة أمريكية إطارية جديدة لنظام إقليمى شرق أوسطى مختلف عما قال به الرئيس السابق بوش على النحو التالى: أولا: سينحو الأمريكان نحو منطق المسارات الاستراتيجية الإقليمية المتعددة، وليس إلى منطق التكتل الإقليمى للمعتدلين فى مواجهة التكتل الإقليمى للمتطرفين الذى أقامت علية كوندوليزا رايس الاستراتيجية الأمريكية. ثانيا: يقصد بالمسارات الإقليمية المتعددة ليس ذات المعنى كالذى يمكن أن يفهم من عبارة مسارات المفاوضات المتعددة التى استخدمت فى مفاوضات السلام بغير نجاح كبير، حيث يختلف الأمر فى أن منطق المسارات الاستراتيجية المتعددة يفترض فى المقام الأول خلق نظام إقليمى على شكل مصفوفات إقليمية مرتبطة أولا بالمحرك الأمريكى. فى هذا الإطار بزغت حتى الآن ثلاث مصفوفات إقليمية، أولاها، مصفوفة مصر والسعودية والخليج والأردن واليمن ما عدا قطر، وثانيتها، مصفوفة تركيا وإيران وسوريا والعراق وأفغانستان ولبنان وقطر، وثالثتها، مصفوفة السودان وتشاد وليبيا وإثيوبيا والصومال وكينيا. ثالثا: هذه المصفوفات ستعمل على تعميق التعاون بين أطراف كل مصفوفة، مع تخفيض الصراع عبر المصفوفات، على أن تعمل أمريكا على التأكد من تنظيم الصراع وتخفيضه عبر المصفوفات. هنا ستلعب أمريكا دوراً جديداً ألا وهو منظم العلاقات عبر المصفوفات، الأمر الذى يستدعى من أوباما بالضرورة أن تكون له علاقات جديدة بل وممتازة مع الدول والقوى السياسية والاستراتيجية فى المنطقة. رابعا: فى هذا السياق يعتبر بناء الدولة الفلسطينية والتأمين الفائق لإسرائيل جزء حيوى من دور المنظم للعلاقات الإقليمية. خامسا: ومن هنا يمكن القول بأن أمريكا ربما لم تكن من مصلحتها، حتى الآن، حشد الجهد الضرورى لإنجاح التفاوض الفلسطينى- الفلسطينى الذى يقوم به المصريون. سادسا: عناصر الاستراتيجية الجديدة تتمثل فى منطق الانفتاح والتعامل الكثيف مع كل الأطراف بشكل يسمح للأمريكان بخلق صياغة داخلية لهذة المصفوفات، مما يمهد بخلق شبكات فرعية إقليمية، وخلق آليات للردع بين الشبكات بعضها وبعض، وخلق مناخ عام يسمح بالتغيير المتدرج المحدد داخل كل شبكة إقليمية. داخل هذه الملامح الأولى نرى لشيمون بيريز إسهاما، كما نرى لجون كيرى إسهاما آخر، كما نرى إسهاما لمفكرى البنتاجون الجدد الذين يسعون إلى خلق مفهوم جديد للصراع الدولى قائم على تنظيم جاد للتنافس الحاد. وهناك إسهامات إقليمية أخرى. يحاول أوباما، بمعنى أعمق، أن يعيد تنظيم التفاعل القومى والأيديولوجى العنيف فى الشرق الأوسط الواسع من أجل خلق مجالات للتنافس تبطل، من ناحية، التوجهات ناحية الحمائية الاقتصادية بسبب الأزمة المالية العالمية، وتسمح، من ناحية أخرى، بخلق مناطق إقليمية للاستثمار والأمن. هذا التصور الأولى سيواجه اختباره الحقيقى عندما تكتشف أمريكا مدى عمق السيولة المجتمعية فى المنطقة، ومدى مقاومة الهياكل الأمنية والبيروقراطية لاختراق من الخارج حتى من الذين يشاركونها فى الشبه الإقليمى نفسه. بدأ نمط جديد للصراع فى الشرق الأوسط مختلف بشكل واسع عن نمط صراع بوش.