لمعرفة حدود الفرص الاستراتيجية أمام إدارة أوباما لابد من معرفة ودراسة تبلور أبعاد القيود الاستراتيجية التى تم خلقها خلال إدارة بوش الأولى، وماذا صنعت الإدارة الثانية لبوش من سياسات للتعامل الفعال من اجل إضعاف هذه القيود. بصفة عامة، شهدت دوائر صنع قرارات الأمن القومى فى الفترة الثانية 2004-2008 بعض التغيير الاستراتيجى، سواء فيما يتعلق بالأدوار المتوقعة لنفس الأشخاص، أو بالتغيير فى وضعيات القوى المؤثرة، أو بالتغيير فى الأشخاص والسياسات. فبداية يمثل التغير فى وضعية الرئيس الأمريكى نفسه أهم جوانب التغيير فى بيئة الأمن القومى. ولكن الرئيس بوش يتمتع بوضعية خاصة، فهو أول رئيس منذ عام 1928 يحقق سيطرة جمهورية على الحكومة الفيدرالية- البيت الأبيض ومجلس الشيوخ ومجلس النواب- فى الفترة الثانية. وقد شهدت السنة الأولى من الفترة الثانية للرئيس بوش عددا من الفضائح تتعلق بممارسات إدارته فى مجال حقوق الإنسان فى جوانتانامو، والسجون السرية فى أوروبا، وفضيحة لويس ليبى، مدير مكتب نائب الرئيس، وفضيحة التجسس على المكالمات الخارجية، وغيرها. ولكن هذه الفضائح لم تتمكن من السيطرة على المشهد السياسى مثلما تمكنت فضيحة ووتر جيت أثناء الولاية الثانية للرئيس نيكسون، أو مثلما تمكنت فضيحة مونيكا لوينسكى فى الفترة الثانية للرئيس كلينتون. حيث استطاع بوش أن يصور نفسة فى أذهان الأمريكيين كرئيس للأمن القومى ورئيس «فى حالة حرب»، ولذلك كان الجمهور العام على استعداد لأن يغفر له ما لم يغفره لرؤساء آخرين. ولكن مشاغل سنوات الفترة الثانية قلصت من الناحية العملية الطموح الفعلى للإدارة، وصَعُب على الرئيس الانخراط فى أجندة واسعة المدى على نحو ما مكنته الفترة الأولى من رسم استراتيجيات كبرى، فقد شمل التغيير فى دوائر صنع قرار الأمن القومى فى الفترة الثانية تبديل علاقات القوى والنفوذ بين أهم وزارتين معنيتين بسياسات الأمن القومى، وهما وزارتا الدفاع والخارجية. فخلال الفترة الأولى ترددت كثيرا أنباء الخلاف أو الصراع فى الرؤى بين وزارة الدفاع ووزارة الخارجية، وبين وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووزير الخارجية كولن باول، حيث سيطرت على وزارة الدفاع رؤية أيديولوجية دفع إليها المحافظون الجدد من المدنيين بالوزارة (من أمثال بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع، ودوجلاس فايث، وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات، أو بمكتب نائب الرئيس ديك تشينى وخصوصا مدير مكتبه لويس ليبى). وقد بلغ هذا الصراع حدا اعتبره البعض يشير إلى أزمة حكم داخل إدارة بوش بالنظر الى ما عانته عملية صنع القرار من اختلال وظيفى، ومن ذلك أن مجلس الأمن القومى، المعنى باتخاذ قرار الحرب، تم تجاوزه فى ظل إدارة بوش، وهو ما دفع البعض بوصف إدارة بوش بحكومة «العصابة» التى يقودها تشينى ورامسفيلد، مع مستشارة الأمن القومى، حينئذ، كونداليزا رايس. وخلال ولاية بوش الأولى كانت السياسة الخارجية الأمريكية غير متسقة، بسبب الخلاف بين دونالد رامسفيلد وبول وولفويتز وجون بولتون، وكيل وزارة الخارجية لشؤون مراقبة التسلح والأمن الدولى، من المحافظين الجدد المتشددين من ناحية، وكولن باول ونائبه ريتشارد أرميتاج، من المعتدلين من ناحية أخرى. ولم يعارض باول ولا أرميتاج حربى أفغانستان والعراق، ولكنهما انحازا بشدة للوسائل الدبلوماسية التقليدية التى يتحيز لها موظفو وزارة الخارجية الأمريكية، ومسؤولو وكالة المخابرات الأمريكية، والقائمة على هياكل التحالفات التقليدية مثل «الناتو»، والمؤسسات الدولية مثل الأممالمتحدة. وقد تصادم باول مرارا مع نائب الرئيس ديك تشينى، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، حول العراق وإيران وكوريا الشمالية والصراع الفلسطينى- الإسرائيلى. وفى الفترة الثانية، جرى تغيير شبه متعادل فى وزارتى الدفاع والخارجية، فبينما استقال كولن باول ونائبه ريتشارد أرميتاج وعدد من مسؤولى وزارة الخارجية من أصحاب الرؤى الواقعية الجديدة، بقى دونالد رامسفيلد وديك تشينى فى منصبيهما، لكن تم إدخال تغيير جوهرى بإبعاد شخصيتين مدنيتين من المحافظين الجدد فى وزارة الدفاع، وهما بول وولفويتز ودوجلاس فايث، وكلاهما كان له نفوذه الطاغى وقراءته الخاصة للأحداث، ودوره المؤثر فى رسم سياسات البنتاجون والسياسة الأمريكية فى مرحلة ما بعد 11 سبتمبر.