آخر من كنت أتوقع أن أجد لديه توصيفاً جامعاً مانعاً لكل ما نعيشه فى عصر الرئيس مبارك من سعادة وهناء هو الأديب الكبير الراحل إحسان عبدالقدوس. ستستغرب ما أقوله إذا كنت مثلى من الذين لم يقدروا إحسان حق قدره، أعترف أننى لم أكتشف الرجل إلا متأخرا، ربما لأننى فى سنوات المراهقة هرعت لقراءته فقط بفعل السمعة السيئة التى كان يروجها عنه بعض خطباء المساجد بوصفه من دعاة الانحلال، وعلى العكس وجدته أخلاقيا وداعيا للفضيلة بطريقته، ولذلك تركته بعد أن وجدت الانحلال على أصوله لدى أدباء من سوء حظهم أن كتبهم أغلى من القدرة الشرائية لخطباء الجوامع. للأسف الشديد تكفل المتثاقفون بتشويه سمعة أدب «إحسان» على مر العصور، إما تعالياً أو نفسنة أو ممارسة لديكتاتورية أذواقهم المريضة التى رفعوا بفضلها أسماء عاطلة الموهبة إلى سابع سماء وخسفوا بموهوبين حقيقيين سابع أرض، مازلت أتذكر مثقفاً كبيراً وجدنى أحمل مجموعة قصصية لإحسان اسمها «زوجات ضائعات» فنظر إلىّ باحتقار كأنه ضبطنى على جهاز الإرسال أبعث بتقرير إلى الموساد. لا يمكن أن نغفل أيضا كيف تكفل بعض مؤلفى المسلسلات الرديئة بإجهاض فرص اكتشاف العالم الأدبى الخصب للرجل الذى عاشت السينما عليه ومعه سنين من العز، ومع كتمة النَفَس التى نعيشها فى أزهى عصور الخنقة تحولت الأسماء الرايقة لروايات الرجل إلى إفيهات. أتساءل الآن لو كان إحسان حياً بيننا هل كنا سنقرأ له وهو المتفاعل دوما مع مجتمعه، روايات تحمل عناوين «لاتسرطنى معك - واحترق قطار العمر - يد المتحرش لاتزال فى جيبى - سليكون فى صدرى - لن أعيش فى جلباب أبى سأرثه فقط». أعدت اكتشاف إحسان مؤخراً عندما طلب منى نجم سينمائى تحويل قصة لإحسان إلى فيلم، قلت متهكما «هى الدنيا ضاقت عشان نلجأ لقصة لإحسان.. ما راحت عليه خلاص»، رد الرجل علىّ ردا مقنعا، حكى لى القصة، انبهرت بفكرتها، وعندما قرأتها انبهرت أكثر (لا تنبر فيها وتسألنى ما هى القصة، فأنا أفضل أن تشاهدها مشوهة فى فيلم) بعدها بدأت فى إعادة قراءة أعمال إحسان القصصية بالذات، خاصة وقد تحولت أغلب رواياته الطويلة إلى أفلام سينمائية أغلبها جميلة، لأكتشف أن ما حصل عليه من جماهيرية ساحقة ومبيعات مذهلة لم يأت من فراغ، وأن الناس فعلا كانت على حق عندما انحازت لأدبه وخاصمت آراء النقاد المتعالين عليه، وأن مهاجمة الرجل بتقليدية أسلوبه ربما كانت نقطة لصالحه، فقد جعله هذا الأسلوب البسيط الرائق يعيش عمراً أطول ليصل إلى شباب هذه الأيام مثلما وصل إلى شباب عصره. إحسان ليس بحاجة لى لكى أروّج لأدبه، يكفى أنهم كانوا يقولون فى عصره إنه موضة وستنتهى، وأثبتت الأيام وأرقام التوزيع العكس، لذلك دعنى أحدثك الآن عن «معروف حمامة» بطل القصة التى قدم لى فيها إحسان تفسيراً قاطعاً جامعاً مانعاً للعهد الحالى مع أنه ولحسن حظه لم يعش فيه سوى بضع سنوات، سيبك من أن القصة عنوانها «زئير فى الأحلام والحياة فى أقفاص»، وسيبك من أنها أقرب إلى كونها صورة قلمية، لكن الذى لن يسيبك بعد قراءتها هو قدرة إحسان المدهشة على تكثيف الواقع السياسى الذى لا يتغير فى مصر، وهو يستعرض قصة معروف لامؤاخذة حمامة الذى كان أسداً فى معارضة عبدالناصر لأنه أغرق مصر بالأحلام ومات قبل أن يمتد به العمر ليكون واقعيا، ثم كان أسدا فى معارضة السادات لأنه أغرق مصر فى أبعد أعماق الواقع، ثم جاء مبارك الذى حمد «معروف» الله لأنه «تولى القيادة بعد أن اجتاز عمر الشباب عمر الأحلام وأصبح فى عمر لا يقبل تجاهل الواقع»، ولذلك اختار معروف أن يصبح أسداً فى قفص فى سيرك الحاكم الجديد الذى يشمل الشعب كله ويُترك فيه الجميع يزأرون كما يشاءون بينما الحاكم لايزال يحتفظ بالسوط بين يديه ولكنه فقط لم يعد يطرقع به فى الهواء، أصبح الزئير حقا شرعيا لكل الحيوانات السياسية سواء للأسود أو للقرود، حتى إنه بدأ يحس أنه لو عاد إلى الزئير فسيضيع بين كل الذين يزأرون، وكلما دفعته طبيعته كأسد سياسى إلى الزئير يدرك أن الحاكم يستطيع فى أى لحظة أن يسترد تبرعه ويخمد الزئير ويطلق الديكتاتورية من جديد، ولذلك كان معروف دائما يبتلع زئيره قبل أن يطلقه، فلا خير فى الزئير إذا ظل فقرة فى سيرك. ليس عندى ما أضيفه إلى عبقرية إحسان فى توصيف حالنا سوى أن أقول إن الله كان رحيما به فقبضه إليه قبل أن يرى كيف لم يعد لدينا فى سيركنا السياسى لا بهجة ولا متعة، فقط رائحة الحيوانات المقبضة. (من كتابى «ضحك مجروح» تحت الطبع) * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]