وجدت نفسى.. أستكمل ذكرياتى عن الشخصيات العملاقة فى الرياضة، والتى بدأتها باللواء طيار منير ثابت ولورد الرياضة المصرية «الميجر مراد». وشخصية اليوم لا يمكن أن تغيب عن ذاكرتى، اللواء مدحت يوسف، قائد اتحاد الشرطة الرياضى، فى الزمن الجميل زمن الحب والإخلاص والوفاء والاحترام والكبرياء. مدحت يوسف لاعب مصر الأوليمبى لكرة السلة مع جيل العمالقة البيرتدرس وحسين منتصر. لقد كنت أكثر الناس حظاً أن أعمل تحت قيادة هذا العملاق الشامخ طيب النفس والقلب صارخ الأداء، يمشى يملؤه الزهو والكبرياء، تساعده قامته العالية وقوة بنيانه وقبضة يده القوية التى يصافحك بها فتشعر فوراً بقوته فى كل شىء، وأستطيع أن أؤكد أنه بالرغم من زيارتى لمدن العالم ومقابلتى لشخصيات كثيرة، فإن شخصية مدحت بك- كما تعودت أن أناديه- لم أجد لها بديلاً، وقفت أمامه «انتباه» دائماً حتى رحيله. لقد جعل فترة خدمتنا باتحاد الشرطة الرياضى أجمل أيام العمر، وجعل من هذا المكان رياضة تخدم المجتمع وتخدم شباب حى العباسية والدراسة، ولأننى كنت تلميذاً فى مدرسته، فقد تعلمت حتى حصلت على جائزة اللجنة الأوليمبية الدولية «الرياضة والمجتمع» وهو أول من أرسى قواعدها، كما كانت دهشتى عندما رأيت صبية فى سن العاشرة يلعبون الجمباز فى صالة الاتحاد مع المدربين ويتم تقديم الوجبات لهم مجاناً والملابس الرياضة حتى أصبحوا أبطالاً للجمباز.. إنهم أطفال يتامى من الملاجئ، قدم لهم اللواء مدحت الرعاية الرياضية ليتحولوا إلى أبطال رياضيين بدلاً من صبية مشردين. لم أر هذا الرجل على الشاشة التليفزيونية يستعرض براعته فى خلق أبطال من صبية الملاجئ ولم يلهث يوماً وراء الصفحات الرياضية لنشر وتصوير إنجازاته مع اليتامى. إنها نعمة القناعة والرضا.. لقد عرفت جميع وزراء الداخلية وقيادات الشرطة العليا من خلال ترددهم وحبهم لشخصية هذا الرجل وشخصية اتحاد الشرطة الرياضى التى بناها.. وكثيراً ما كان ينادينى لمرافقة بعض الشخصيات احتراماً لهم لتوديعهم حتى المغادرة، وسألت يوماً: لماذا أنا ولماذا البعض فقط؟ فأجابنى: ما أطلبه هو توديع اللواءات على المعاش لأنهم الأولى فى رعايتهم بعيداً عن التملق لمن هم فى الخدمة. لقد وجد بطل العالم للإسكواش جمال عوض الرعاية من اللواء مدحت عندما كان يتردد للتدريب معى على ملاعب الاتحاد وعلى جبال المقطم المجاورة لاكتساب اللياقة، وعندما أخبرته بأنه فقير يتيم، قدم له الأحذية والملابس وكأنه من ضباط الاتحاد. إن فقراء الحى من الشباب وجدوا فى اتحاد الشرطة الرياضى مكاناً للتأهيل الرياضى قبل الكشف فى الكليات العسكرية. إن أول بطولة أندية مفتوحة للإسكواش كانت بطولة الشرطة تحت رعايته، وقدم من خلالها تلاحماً وصداقة بين ضباط وجنود الشرطة مع شباب الأندية التى كانت تعزف موسيقى الشرطة العسكرية بآلاتها النحاسية فى استقبالهم ووداعهم، ولم أطلب منه شيئاً لإنجاح وازدهار الرياضة إلا وكان مؤيداً ومشجعاً، حتى وصلنا بفريق يلعب فى لندن مع ضباط وجنود بوليس أسكتلنديارد. لقد جاء الوقت لنفترق وازدادت صلتى بهذا الرجل وكيف أترك هذه القيمة النادرة. لقد رحل اللواء مدحت يوسف عنا للأبد ولكنه ترك أبناء لم ينجبهم، وتلاميذ ترسخت داخلهم صفاته وكبرياؤه.. لو كان للمثل والمبادئ والقيم والقناعة وعاء، فأستطيع أن أؤكد أن المرحوم مدحت يوسف كان هذا الوعاء، إن مواقف مدحت يوسف تجعل منه قيمة رياضية تاريخية لا يمكن تعويضها.