ذكرنا فى مقال سابق أنه يترتب على فهمنا الخاص بعلاقة الإسلام بالعلمنة تغيُّر وظيفةِ الدّولة بمفهومها الكلاسيكىّ فى الفكر الإسلامى ّمن «الدولةِ الحارسةِ للدّين» إلى «الدّولةِ المُحايدةِ تجاه مواطنيها فيما يتعلقُ بحرية الاعتقادِ والممارسةِ الدّينية». وقلنا إنّ مثلَ هذا التغيير البنيوىّ لوظيفةِ الدّولة لا يقتصرُ فقط على مُطابقةِ الاسم للمُسمى، أو الوصفُ للموصوف «دولة إسلامية: حارسة للدين مُطبقة للشرع»، «دولة علمانية: تلتزمُ مؤسساتُهَا الحيادّية تجاه مواطنيها على مستوى التشريعاتِ والتطبيقاتِ العمليّة»، وإنّما يتجاوزُ ذلكَ أيضًا لمدى أبعد تتجردُ فيه الدّولة، كمجموعةٍ من المؤسسات، عن كلّ وظيفةٍ دينيةٍ فيما يبقى الدّينُ مُرتبطاً بالسياسة! وهنا لابُدّ وأن نميّزَ ما بين الدولة والسياسة. فالدولة هى عبارة عن «مجموعة المؤسسات التى تحمى الأمن العام، وترعى حقوق ومصالح المواطنين، أو هكذا يُفترض بها أن تكون، فى استمرارية تتجاوزُ التغيرات السياسية العابرة، أى تتابُع الأنظمة الحاكِمة لها». أمّا السياسة، فهى عبارة عن «نتاج عمل وبرامج الأحزاب والجماعات السياسية التى تسعى جاهدة إلى الوصول للسلطة بغرض تنفيذ برامجها وتطبيق رؤيتها السياسية». ومن ثم، فإنّ كلاً من مؤسسات القضاء وكيانات الخدماتِ المدنية والعلاقات الخارجية تُعد فى جانب الدّولة، بينما تكونُ الحكومة القائمة فى الوقت المُحدد نتاجا مباشرا للعمليةِ السياسية. والواقع أن التساؤل الذى يفرض نفسه هنا هو: كيف يمكن أنْ نُدعم إذا حقَّ التدّين فى المجتمع بمُعارضةِ النفاذ القسْرىّ للأحكام الدينية من خلال مؤسساتِ الدّولة؟!فى اعتقادى أنّ ذلك يكون عن طريق دعم وتصعيد دور الدّين نفسه فى المُجتمع، وذلكَ من خلال الالتزام الشخصىّ بقيمهِ ومبادئه، والأهمُ انعكاسُ ذلكَ من خلال الحياةِ العامة؛ بما فى ذلك المشاركة السياسية. كما يمكن أن يتم ذلك أيضاً من خلال دعم ونفاذ حِيادية الدّولة تجاه الدّين بحيث تنأى مؤسساتُهَا عن محاباةِ أو معاداةِ أى مبادئ دينية، وتبقى على التزامها بمُناصرة حريّةِ الاعتقاد والسلوك الدينىّ لدى جميع المواطنين على التساوى، وعلى اختلافِ انتماءاتِهم الدينية. فلقد كان انحيازُ الدولة دينيّا مُرتبطا بانحياز تصوُّر القائمين عليها لفهْمِهمُ الإسلامَ والشريعة الإسلامية. وقد ترتب على ذلكَ، حرمانُ عامّة المسلمينَ من اتباع مُعتقداتهمُ الدينية أو المذهبية، فى حريّةٍ كاملةٍ بعيدًا عن سطوةِ وهيمنةِ الدّولةِ القائمة. ويكفى أنْ نُدللَ على ذلكَ حاليا بفرض المملكة السعودية الفهمَ الوهابىّ للمذهب الحنبلىّ قهْراً، والذى يفضى إلى انتهاكِ حريةِ الاعتقاد الدينىّ لدى كلّ منْ لا يقبلُ بمثل هذا الفهم، وبصفةٍ خاصة مُسلمى الشيعة. وبالمثل، فإنّ فرْضَ القائمين على الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، المذهبَ الجعفرى، وولاية الفقيه يُفضى هو الآخرُ إلى انتهاكٍ مماثل لدى كل المخالفين لهذا المذهب، بمنْ فيهم الشيعة أنفسهم!ومن أجل هدم الأساطير المؤسِسة لفكرة إسلامية الدولة، وصولا إلى القول باستحالتها، ينبغى الإقرارُ أولا بأنّ دولة النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت استثنائية بصورةٍ لا يمكنُ تكرارها فى أىّ مجتمع معاصر، إذ لا يمكنُ مقارنة دولةٍ كانَ القائم على أمرها نبياً معصوما ظل يتلقى وحىَ السماءِ حتى الموت بأى دولةٍ أخرى على الإطلاق، بما فى ذلكَ دولة الخِلافة الرَاشدة. وبالرغم من ذلك، ظلَ الخطابُ السياسىّ المعاصر يقومُ على مرجعية دولةِ المدينة وحكمِ الحِقبةِ الراشدة فى التدليل على، وتأكيد حقّ إقامةِ الدولة الإسلامية.ويبقى القول، إنّه على الرُغم من الاختلاف الواضح فى طبيعة الدولةِ حاليا وممارستها السيادة القطرية، فلاتزالُ الخطاباتُ الدينية تُصر على إضفاء صفةِ «الإسلامية» عليها، وجعلِ تاريخِ المُجتمعاتِ الإسلامية الأولى بمثابةِ المرجعيةِ الأساسيةِ لكلّ عملٍ سياسى قائم أو مُفترض .. وتلكَ قضية أخرى! [email protected]