كانت حرب أكتوبر مستعرة، عندما علمت وسطها أن الطيار عاطف السادات كان ممن استشهدوا خلال الطلعة الجوية الأولى التى افتتحت المعركة الكبرى لجيلنا. كنت قد شاهدت الطائرات وهى تعبر فوق رؤوسنا على ضفاف القناة، وساعتها، لم أكن أعرف بصفة شخصية أيا من الطيارين، ولكن ذهنى ذهب فورا مع معرفتى بالخبر إلى أخى اللواء دكتور قدرى سعيد، الذى كان يحارب فى المعركة فى مكان آخر، وساعتها، افتقدته بشدة وتمنيت أن أعرف شيئا عن سلامته، ومع هذا جاء الخاطر فورا عما يفعله الرئيس السادات مع هذه المحنة فى واحدة من أحلك لحظات الوطن. كان الوطن ساعتها يعرف كثيرا من الشهداء، ووسط الحرب كان الزملاء يتساقطون، ولكن واحدا من بينهم كان كما لو كان يضع عقل الأمة وقيادتها فى اختبار نفسى وعقلى هائل، كان الرجل العام لشخص رئيس الجمهورية يواجه امتحانا ليس كمثله امتحان، لأن المصاب الشخصى هو عطب لقطعة منا ومن دواخلنا وتاريخنا ونسماتنا وعواصفنا الشخصية، وكلها تصبح بالنسبة للرجل العام لها مكانة مكبوتة وأحيانا بالإجبار ثانوية، حيث تخضع فى النهاية لاعتبارات المصلحة العامة. ومنذ فترة قصيرة، كنت فى اجتماع للمجلس الأعلى للسياسات، وهناك جاء الخبر بوفاة السيدة حرم الدكتور أحمد نظيف، رئيس الوزراء، وبعدها عرفت قصة المرض ونهايته، ومعها، تتابعت كل المشاهد التى جرت فى حضور الرجل، سواء لشرح سياسات الدعم، أو سياسات الحكومة الخاصة بمواجهة ارتفاعات الأسعار، أو فى مناسبات أخرى، سواء فى مجلس الشورى أو المؤسسات المصرية المختلفة. فى كل ذلك، كان الرجل العام يقوم بواجبه، بينما حزنه الشخصى يمزق جنباته وأحاسيسه، كل يوم ألف مرة.. وكما هى العادة فإن وضع النفس فى ذات المكان يكون مكلفا بحزن جارف متخيل، وبأسئلة صعبة حول الاختيار الشخصى والاختيار العام. وساعتها، ربما تتساءل: هل تساوى لحظة من الشهرة والمكانة وأيا ما كانت من عائد الطموح والإنجاز، لحظةً مع مَنْ أحببت قبل أن تصعد الروح إلى بارئها؟ وماذا سيكون عليه الخيار بين المسؤولية العامة والمسؤولية الشخصية؟! والسؤال والاختيار فى حد ذاته ثمن فادح. ومنذ أيام، كان برنامج اللامع عمرو أديب «القاهرة اليوم» هو ما وضعنى على أبواب الكارثة التى جاءت مضاعفة هذه المرة، حينما سألت مشاهدة من السعودية عن الخبر، فجاءت الإجابة حزينة وقاطعة أنها صحيحة، فهى لحفيد الرئيس مبارك، وساعتها، جرى الذهن إلى حفيدىّ يوسف وآدم، وأظن أن ذلك قد جرى لكل من استمع إلى الخبر المشؤوم، ولكن الذهن جرى فورا إلى الرئيس حيث تجتمع عنده الصفة العامة بقدر ما تعنيه السمة الخاصة لحالة كان إبراهيم عيسى - دون غيره من خلق الله - هو الذى وصفها وصفا صحيحا، حيث يقتلع جزءا من كيانك ثم لا يعود مرة أخرى. وبالطبع فإن كل الأسر المصرية عرفت كارثة الفقدان هذه بشكل أو بآخر، ولكن الرجل العام تتراكم لديه التجربة بفعل أنه الغائب دائما عن الخاص.. إنه الذى عبر فى ساعة من ساعات الاختيار من الخاص، حيث تكون الهموم والسعادة مرتبطة بحدود المعلوم والمعروف من أسرة ومستقبل، إلى العام حيث اللا محدود من معضلات وآلام وآمال أمة بأسرها. والسؤال الذى لا ينفك يؤرق الرجل العام ليس عما إذا كان ما يفعله مؤلما أم لا لأن لديه من الإيمان بالمهمة ما يعوض ويجزى، وإنما عما إذا كان الاختيار سليما من الأصل، وهل كان الأوفق هو البقاء مع الأحباب حيث نعرف الصور والملامح وآيات البشر والبشارة وحتى الساعات الحميمة للألم المشترك؟ الحدث فى النهاية كان شهادة للأمة المصرية، وربما حتى كان شفاء لها من تجاوزاتها وجموحها ونسيانها، حتى إنه فى ظل الصراع السياسى والخلاف حول مستقبل الأمة ومساراتها واختياراتها، فإن وفاة محمد علاء حسنى مبارك طرحت بقوة فضيلة التواضع عندما اجتمعت كل الطوائف والجماعات، وحتى هؤلاء الذين تطرفوا أو تورطوا بعيدا، إلى احترام لحظة ألم المواطن العام، جرت المراسم للعزاء فى حضور الجميع، وسار الكل.. المعارضة مع الحكومة، والجيش مع الشعب، وكأن الاختبار واقع للجميع. ورغم عدم حضور الرئيس إلى الساحة، فإن خيطا رفيعا كان ممتدا له حيث يوجد بالدعاء والأمل. الدعاء له بعبور المحنة كشخص، والأمل فى أن يعود إلى قيادة الركب حيث قدر الرجل العام. خالص التعازى من القلب للرئيس مبارك وأسرته الكريمة.