كان المشتغلون بالإصلاح السياسى فى مصر قد انشغلوا مبكراً فى مواجهة ما يسمى معركة التوريث، باعتبار أن النظام الجمهورى قائم أساساً على مبدأ الاحتكام ديمقراطياً لإرادة الشعب فى اختيار رئيس الجمهورية ونقل السلطة وتداولها سلمياً وفقاً للاختيارات الحرة للشعب، وذلك خلافاً للتقاليد المرعية فى توريث الحكم كما فى النظام الملكى، لكن هذه المسألة، على أهميتها، باتت بحاجة ماسة لإعادة النظر فيها من مواقع وزوايا أخرى، لأن مسألة توريث الحكم ليست هى فقط عامل الترجيح أو التفضيل بين النظام الجمهورى والنظام الملكى، ففى كثير من الحالات أظهر نظام الملكية الدستورية تفوقاً ساحقاً على النظم الجمهورية، خاصة فى العالم الثالث لجهة احترام الديمقراطية وحقوق المواطنين والنهوض بالمجتمع، ولا يمكن بالطبع عقد أى وجه للمقارنة بين نظام الملكية الدستورية فى بلدان مثل إنجلترا وكندا وإسبانيا واليابان الإمبراطورية وبين نظام يوليو الجمهورى فى مصر وغيره من الأنظمة الجمهورية المشابهة، وليست هذه دعوة لتبنى الملكية الدستورية (ولما لا؟ كخيار من بين خيارات أخرى يجب أن تطرح مثل الجمهورية البرلمانية وغيرها)، بقدر ما هى دعوة لتجاوز العقلية التى تتعامل باختزالية شديدة مع هذه القضية، حيث يجرى اختزال قضايا الإصلاح السياسى فى قضية التوريث، ومن ثم يجرى اختزال هذه القضية فى شخص جمال مبارك، ثم يتحول هذا الأمر إلى مهزلة عندما يدعو بعض زعماء الأحزاب وقادة حركة مقاومة التوريث من القومجيين لاستيراد رئيس جديد لمصر من أمريكا مثل الدكتور أحمد زويل أو من النمسا مثل الدكتور البرادعى، حتى دون أن يعرف أى مواطن مصرى أدنى المعلومات عن الآراء والمواقف السياسية للعالمين الجليلين اللذين شرفا مصر بنيلهما جائزة نوبل فى أمور أخرى ليس من بينها السياسة. وتزداد غرابة هذه المواقف عندما يزعم البعض أنه يقاوم التوريث من منطلقات الحرص على المبادئ الديمقراطية فيما يدعو فى الوقت ذاته لاستدعاء الجيش للسيطرة على الحكم ولا يرى أدنى تناقض بين الموقفين. ولا يقتصر الأمر على تلك المفارقات بل تجاوزها إلى حد تنصيب منسق عام لحركة مقاومة التوريث كان قد دعا علناً فى الصحافة اليومية إلى استبدال نظام الحكم الحالى فى مصر بنظام ولاية الفقيه فى إيران. كما تشارك حركة الإخوان المسلمين، وإن كان بشكل حذر ومحسوب، فى حركة مقاومة التوريث، رغم إعلان مرشد هذه الجماعة عن رضاه على تولية أى أخ مسلم من غير المصريين على حكم البلاد، حتى لو كان من ماليزيا أو مبعوثاً من أتباع أمير المؤمنين فى حركة طالبان. ورغم كل هذه التناقضات الصارخة فى مواقف العديد من القوى المتحمسة لمقاومة التوريث فإنه يحسب لها اصطفافها، ولو المؤقت، حول قضية واحدة مشتركة، لكن هذا الاصطفاف يبدو أكثر وجوباً فى مواجهة مسؤولياتنا الذاتية عن الأزمة العميقة للحالة الحزبية فى مصر، لأن الواقع السياسى الحزبى الراهن فى مصر لا يمكن له إلا أن يفرز ظواهر مثل التوريث، أو ما هو أسوأ منها من ظواهر استبداد الحكم الدينى. وقد لا يوجد خلاف على أن عملية إصلاح الحياة الحزبية فى مصر تستلزم بالضرورة إصلاح النظام السياسى نفسه، وإطلاق كل الحريات السياسية، بما فى ذلك الحق فى تشكيل الأحزاب وفقاً للدستور والقانون، لكن ما يتم عادة تجاهله أو على الأقل عدم التركيز عليه هو العلاقة الغائبة ما بين إنجاز هذه العملية التاريخية وبين ضرورة تحمل المسؤولية الذاتية عن تردى الأوضاع العامة للأحزاب المصرية، ويبدو أن هناك مايشبه التواطؤ العام على تغييب هذا الشرط البديهى، وربما لهذا لم يجد المشغولون جداً بمعركة التوريث أدنى علاقة بين هذه المعركة وبين المشهد السياسى المأساوى الذى عصف بالحياة الحزبية مؤخراً فى مصر والذى تمثل فى فصل أبوالعز الحريرى، نائب رئيس حزب «التجمع» «الوحدوى» من عضوية الحزب كله وليس فقط من منصبه وبقرار «ديمقراطى»، بعد اقتراع أعضاء الأمانة العامة لأحد أبرز أحزاب المعارضة المصرية. وبعيداً عن أى انحيازات مع أبوالعز أو ضده فإن هذه الواقعة بحد ذاتها تستدعى ربط النقاش حولها بالأزمة الراهنة للأحزاب المصرية وعلاقتها بأزمة التوريث والوضع السياسى المصرى العام، وعلى النحو التالى: أولاً – إن واقعة فصل أبوالعز ليست حدثاً استثنائياً، مع كل الاحترام لخصوصيتها، فكل الأحزاب المصرية تقريباً برهنت فى وقائع ثابتة أنها لا تستطيع تحمل الخلاف أو الاختلاف داخلها، ربما لأنها فى جوهرها مبنية سياسياً وتنظيمياً على مثال نموذج الحزب الشمولى الواحد وشخصنة الزعيم الملهم الواحد، وهى رغم تعدد مسمياتها وبرامجها الدعائية تتشارك فى هذا الأمر وترفع عقيرتها بمطالبة النظام الحاكم بالديمقراطية فيما هى لا تمارس داخلها هذه الديمقراطية التى تدعو لها وتطالب بها، وهذه الأحزاب، وهى لاتزال فى المعارضة، تؤشر لنا بسلوكها هذا عما يمكن أن نتوقعه منها فى المستقبل إذا ما قدر لها أن تنتقل إلى سدة الحكم واحتلال المقاعد الوثيرة للسلطة. ولا يوجد فى الحقيقة ما يبرر عدم قدرة حزب التجمع على تحمل الموقف المعارض لأبوالعز حتى بافتراض ما يتهم به من شطط أو تجاوز، لأن جوهر الديمقراطية التى نطالب بها يفترض احترام رأى وموقف الآخر المختلف معنا وبذل كل ما يمكن من جهد لإيجاد صيغة سياسية وتنظيمية تسمح بالتعايش بين تيارات مختلفة فى داخل الحزب الواحد، والقاعدة فى السياسة كما فى الزواج: أبغض الحلال هو الطلاق، ولا يقع هذا الطلاق إلا لخلاف سياسى واضح تستحيل معه مواصلة الحياة المشتركة داخل حزب واحد، ولا يبدو حتى الآن أن هذا هو واقع الحال فى أزمة فصل أبوالعز الحريرى من الحزب الذى يرفع على مقاره اسم «التجمع» و«الوحدوى»، والأمر ذاته يمكن أن يقال عن الحزب الناصرى الذى لم يحتمل داخله وجود تيارات ناصرية أخرى يمثلها حمدين صباحى وكمال أحمد وأحمد الجمال وآخرون من القيادات الناصرية البارزة، إلا إذا كان كل طرف يدعى لنفسه الحق الحصرى الوحيد فى وراثة الناصرية وتمثيلها شرعياً، وهو أحد تجليات عقلية التوريث التى نعارضها سياسياً ونمارسها فى الواقع السياسى. أما الأحزاب الشيوعية المصرية، النصف علنية – نصف سرية، فهى ماتزال فيما يبدو مصرة على مواصلة بناء الحزب الموحد الرأى والعقيدة ربما اقتداءً بسنة الرفيق الأعلى لينين، الذى قام بمصادرة وحل الكتل التى كان يموج بها الحزب البلشفى التى منحته فى البداية قدراً من الحيوية الداخلية قبل «تطهير» الحزب منها، فكان من الطبيعى أن يحبل هذا الحزب بوريثه الشرعى ستالين الذى غرس مبكراً بذرة النهاية المحتومة للمشروع السوفيتى. ولم تسلم حتى الأحزاب التى تدعى تمثيلها لليبرالية المصرية من العدوى بوباء الخنازير السياسى هذا، فقد عاصرنا قبل وقت قصير ملحمة التنازع التى عصفت بحزب الوفد الجديد، التى جرت فى الغالب على خلفية التنافس على «وراثة» زعامة الحزب وتركة سعد باشا زغلول، مؤسس هذا الحزب العتيد، وبدلاً من أن نشهد سجالاً أو تناظراً سياسياً بين الفرقاء المتنازعين بما يثرى الحياة السياسية المقفهرة فى مصر، جرى نقل هذا النزاع من داخل مكانه الطبيعى فى البيت الذى كان فى الأيام الخوالى بيتاً للأمة إلى ساحات القضاء الإدارى كأى قضية متنازع عليها بين الورثة والمختصمين معهم على التركة. ويكاد الأمر ذاته أن يكون مشابهاً إلى حد ما لما تشهده الأحزاب الليبرالية الأخرى كما فى حالة حزب الغد «1» وحزب الغد «2»، ولم تبرهن بعد زعامة حزب الجبهة الديمقراطية عما يمكن اعتباره تجاوزاً للأزمة الراهنة التى تمسك بتلابيب أغلب الأحزاب، والقدرة على تجسيد شعار ومفهوم «الجبهة» على المستويين السياسى والتنظيمى فى الواقع العملى. وفى سياق متصل، كانت مصر واحدة من أكثر البلدان التى شهدت فى السنوات القليلة الماضية انفجار موجات متعاقبة من الإضرابات والاعتصامات المطلبية العفوية، التى حملت إدانة مزدوجة، واحدة صريحة فى مواجهة سياسات النظام والحكومة، والثانية ضمنية وتخص مواقف أحزاب المعارضة التى لم يكن لها دور لا فى تنظيم هذه الحالة ولا فى تسييسها ودمجها فى إطار الحركة العامة للمعارضة، وباستثناء الحشد المعهود والمحدود على سلالم النقابة فإن قدرات الأحزاب على التعبئة والحشد تبدو متواضعة للغاية حتى داخل مقارها، ويبدو هذا الخلل أكثر وضوحاً فى كل التجمعات الشعبية، وفى عجز الأحزاب عن إحياء الحركة الطلابية فى مصر والتواطؤ على ترك الجامعة فريسة للتجاذب بين تيار المستقبل واستفراد جماعة الإخوان بها. إن الرسالة الكاشفة فى أزمة أبوالعز تدعونا للنظر بعمق أكبر فى كل ما يجب أن نتحمله من مسؤولية ذاتية عن الأزمة العامة للأحزاب فى مصر، التى لا تؤهل هذه الأحزاب لاستحقاق تداول السلطة أو درء مخاطر التوريث أو منع كارثة وقوع مصر فى أسر استبداد الحكم الثيوقراطى الدينى. ثانياً – الجانب الآخر من الأزمة يخص مفهومنا السائد عن الديمقراطية التى ندعو لها ونطالب بها، فقد اتخذ قرار فصل أبوالعز من حزب التجمع بطريقة ديمقراطية من حيث الإجراءات الشكلية وليس من حيث الجوهر، لأنه لا يجب أن نسمح باختزال الديمقراطية فقط فى صناديق الانتخابات، فهذا هو تماماً ما تمارسه أغلب الأنظمة العربية، وقد حصل أغلب الرؤساء العرب على نسبة تأييد تشارف عتبة الإجماع المطلق، ولولا بعض الحياء لأعلن بعضهم عن حصوله على ما يفوق 100% من أصوات الشعب (كان الرئيس الوريث بشار الأسد حصل فى ولايته الأولى على 97% وفى الثانية حسن مجموعه فحصل كمرشح وحيد فى الاستفتاء على 99%، ومن المتوقع أن يتجاوز هذه النسبة فى الاستفتاء على ولايته الثالثة عام 2014). وقد رحبت حركة الإخوان المسلمين وفروعها فى غزة وبعض الدول العربية بالمشاركة فى الانتخابات كتكتيك مرحلى كونها فى الحقيقة لاتزال تؤمن بنظام الشورى وليس بالديمقراطية التى تعتبرها بدعة صليبية غربية، لكن اختزال الديمقراطية فقط فى صناديق الانتخابات يسمح لها بالوصول للسلطة ومن ثم الانقلاب على الديمقراطية ونسف المجتمع المدنى ومصادرة الحريات السياسية والفكرية. ومن الصحيح تماماً القول إن البشرية لم تخترع بعد نظاماً أفضل من الانتخابات الحرة المباشرة التى يجب أن تلتزم بالشفافية والنزاهة، لكن من الصحيح أكثر القول إن الديمقراطية لا تختزل فقط فى الانتخابات لأنها نظام سياسى متكامل لا يجوز الانتقاء منه على هوانا، والأصل فى هذا النظام هو الالتزام بالمجتمع المدنى والدولة المدنية التى أساسها المساواة الكاملة فى المواطنة دون أدنى تمييز وإطلاق الحريات ومنع جميع أشكال الإكراه والوصايا أو التهميش واحترام التعددية وحرية الاعتقاد الدينى والحق الشخصى فى التفكير والتعبير السياسى والثقافى والفنى والمساواة الكاملة بين الجنسين وجميع المواطنين، ولا يمكن اختزال كل ذلك فقط فى العملية الانتخابية لأن تغييب هذه الشروط يفتح الباب إما لتزوير إرادة الناخبين أو لاستعمال الديمقراطية على طريقة ورق التواليت لمرة واحدة فقط. إن فصل أبوالعز بإجراءات شكلية للديمقراطية ليس دليلاً على ديمقراطية الحزب نفسه، ومشاركة جماعة الإخوان فى الانتخابات لا تعنى أنهم فضلوا الديمقراطية على الثيوقراطية ونظام الاستبداد الدينى، وانتخاب الرئيس المصرى المقبل وفقاً للأوضاع السياسية السائدة لا يعنى أن النظام فى مصر بات ديمقراطياً، لأنه إذا كانت كل انتخابات يجب أن تكون ديمقراطية فإن الديمقراطية ليست فقط هى الانتخابات.