قد لا اخطىء عندما ابشر بأن الرئيس القادم لمصر هو السيد جمال مبارك الابن الأكبر لرئيس الجمهورية شاء من شاء وأبى من أبى، وليسعد أصحاب المشروع، ولتسكت الأصوات وترفع أقلام كل من عارض هذا المشروع، فلا نستطيع أن نتغاضى عن حقيقة أن القوى السياسية المعارضة وأن النخب السياسية والإجتماعية المعارضة لم تكتسب بعد عناصر القوة التى تقنع النظام بتغيير قناعاته، وأن النظام قادر بقوته القمعية على تنفيذ إرادته دون أدنى إعتبار لإرادة الشعب. وقد سمعنا وعلى مدى عدة سنوات وقرأنا الكثير عن مشروع توريث كرسى الرئاسة، وقد تناولت الأقلام والبرامج والصحافة كل دقائق وتفاصيل الموضوع، ولم أتخلف عن الإسهام برأيى فى هذا المجال قبل وبعد تعديل المادة 76 الشهيرة معارضا للمشروع ومحذرا من تداعياته، وقد تراوحت الآراء فيه بين مؤيد ومحبذ، وبين رافض ومحذر، ولاأزعم أننى أقدم جديدا فى هده السطور، غير أننى أتحدث هده المرة عن السلطة القمعية المطلقة وكيف تقتحم خيال الحاكم الشمولى لتقلب له الخيال حقيقة وتحجب عنه الواقع الاجتماعى والسياسي، فتخرج قراراته ورغباته عن أصول العمل السياسى لتنقلب إلى نوع من الفانتازيا التى تفرض نفسها على السلطة فتغيب عنها حقائق الأمور على أرض الواقع فتعمى بصيرتها، وتدفعها إلى قرارات كارثية. هذا النهج الشمولى القمعى لا يقتصر على توريث الحكم، بل نتابعه ويطل علينا بشكل يومى عندما ينتهك النظام الدستور والقانون نهارا جهارا دون أدنى إعتبار لردود الفعل ودون احترام لأحكام المحاكم، بل انه وقبل كل شيء ترخص فى إغتيال حق المواطن فى اختيار حكامه ونوابه فتأتى له صناديق الإقتراع بما يريده هو وليس بما يحكم به الشعب، وهو فى هذا كله مأخوذ بوهم كبير مؤداه أن الشعب غير ناضج وغير قادر على حكم نفسه وأنه جاء وصيا عليه بحكمته وقدرته على تحقيق مصالح المواطنين . يقابل ذلك أن القوى والنخب السياسية تعانى من سلبيات كثيرة نتيجة تجميد نشاطها ومحاصرة حركتها لعدة عقود ففقدت اتصالها بالقواعد الشعبية واصبحت عاجزة عن تحريك الشارع، وترتب على هذا الخمول السياسى أن لحقت عدواه إلى منظمات المجتمع المدنى فغرقت هى الأخرى فى خضم صراعات شخصية فى غياب الهدف الأسمى الذى تعهدت بالعمل على تحقيقه. فى هذا المناخ غابت ثقافة الاختلاف فى الرأى وإدارة الصراع السياسى وفق الآليات والنسق الديمقراطية وغرقت الجماهير فى همومها وفى السعى للقمة العيش فى ظل الفقر والحرمان الذى فرضه عليها الحكم. ولم يعد المواطن يسعى الى التعرف على العمل السياسى وممارسته ليس فقط خوفا من القمع البوليسى ولكن أيضا لأن وعيه قد تراجع على مدى عدة عقود من الخضوع وأصبح لا يهتم بالقضايا السياسية ولا يفهمها خاصة وان اللاعب الوحيد فى الساحة هو الاعلام الحكومى الذى يقدم له صورة وردية ومصداقية تفتقر إلى أى أساس مقبول . وهكذا تبدو الصورة مثبطة الى حد بعيد، رغم المجهود الشاق الذى تقوم به القوى والنخب السياسية والاجتماعية والمخاطر الجسيمة التى تتعرض لها من القمع البوليسى الشديد الذى لا يلقى أى اهتمام أو اعتبار لحقوق الانسان وكرامة المواطن. ونعود لمناقشة موضوع التوريث بصورة عامة، فلا يختلف اثنان على أن التوريث قائم ومتجذر فى المجتمع المصرى والعربى من قديم الأزل، وبعد أن كان مفيدا ومطلوبا للحفاظ على استمرار الحرف والمهن التى تتصف بذاتية خاصة وتستلمذ الصبينة وسيلة لاستمرارها وتقدمها، ظهر لنا فى مجتمعنا المعاصر فى صور متخلفة وظالمة، فقد أصبح من المقنن فى بعض المهن والوظائف الحكومية والسلطوية أن من حق الأولاد أن يلحقوا بوظائف الاباء، وسرى ذلك فى الطب وفى السلك القضائى وبين ضباط الشرطة والجيش وغيرها وأصبح التوريث قاعدة مستقرة بصرف النظر عن آثارها السلبية وتعويقها لتقدم المجتمع . بل ان التوريث تخطى ذلك الى مجال الفن الذى يحتاج الى الموهبة قبل كل شيء، ونشهد الآن عشرات بل مئات من الأولاد والبنات الذين يقحمهم الفنان أو الفنانة فى مجال الإبداع وهم يفتقدون كل مقومات ومواهب وقدرات الابداع. وعليه يستند انصار التوريث الى حق الآباء فى استخلاف أولادهم وبناتهم لأنهم شربوا من موهبة آبائهم وأصبحوا أكثر قدرة على الإبداع من أى وافد جديد لا حظ له فى أب أو أم من الوسط الفني. يبقى ان نتحدث عن التوريث السياسى وهو حق مشروع فى النظم الملكية حيث تنتقل السلطة من الملك لولى العهد بآليات معروفة ومعترف بها، أما عن التوريث فى نظم الحكم غير الملكية فنجده فى بعض الديمقراطيات الغربية، بل شهدناه فى دول العالم الثالث الديمقراطية وعلى وجه الخصوص فى الهند وباكستان ولبنان، كذلك نرصده وقد قام فى سورية، ويجرى العمل لإرسائه فى ليبيا واليمن والبقية تأتى ، التوريث فى الديمقراطيات يتم عبر صندوق الإقتراع الذى لا تزيف أوراقه ولا يتم الضغط على الناخبين، أما النظم الشمولية العربية فتكرس توريث الأبناء بتطويع صندوق الانتخابات لكى يشرع التوريث ويلبسه ثوبا ديموقراطيا مزيفا. ولذلك فلا معنى لمعارضة ترشيح ابن رئيس الجمهورية طالما تتمتع الانتخابات بالحيدة والنزاهة والشفافية. وفى غيبة ذلك يثور الشك والقلق بين المعارضين للمشروع حبا فى مصر وليس كرها فى الوريث. ومن هنا أقول لكل من يتطرق إلى التوريث فى مصر، دعك من جمال مبارك وانظر إلى مدى مصداقية عملية التصويت فى الاستفتاء أو الانتخابات، حيث تصدمنا السوابق المتلاحقة فى العقود السابقة، فالتصويت يتم تحجيمه وتجميله من المنبع بعدم اتاحة حرية الترشيح ثم بمحاصرة لجان الانتخابات من الخارج والسماح فقط بدخول مؤيدى النظام وأخيرا بالغاء الإشراف القضائى على مراحل العملية الانتخابية، وبهذا تتضح الرؤية بكل وضوح ونقول لكل المعارضين جمال مبارك قادم قادم وهو رئيس مصر بعد والده وشكرا لجهودكم ولا أراكم الله مكروها فى عزيز لديكم. غير أننى أنضم للكثيرين من المحللين الذين يشفقون على التوريث وعلى مصر من مشروع التوريث الذى لا أرى فيه أكثر من فانتازيا سياسية يعيش فيها النظام مطمئنا إلى قدراته القمعية الرهيبة تلك القدرات التى يعلمنا التاريخ والتحليل السياسى المنهجى انها لن تستطيع الصمود أمام عظم الكارثة وأنها لن تلبث بأن تتفكك وتتلاشى وتسقط هى ونظامها، فالوريث سيرث تركة مثقلة بالمشاكل محفوفة بالمخاطر لن تلبث إلا أن تنفجر فى وجهه وتلحق ببلادنا دمارا شديدا تدفع ثمنه الباهظ أجيالنا القادمة ويروج لمشروعات التوريث فى الدول العربية ويجهز على البقية الباقية من الأمل فى التصدى للهجمة الشرسة التى تعمل على تغيير هويتنا بل وأدياننا وعقائدنا فضلا عن نهب ثرواتنا. والسؤال هنا هل تعيش مصر حياة سياسية حقيقية تفسح المجال لتقارع الافكار والعقائد أم تتمسك بخيال قمعى سلطوى جامح وفانتازيا واعدة يبثها ويلعب على أوتارها أولئك الذين يحيطون بالنظام ويستفيدون منه وعلى الأخص رجال الأعمال وقيادات القمع ورئاسات المجالس النيابية المحلية التى عاثت فى الوطن فسادا غير مسبوق بل يفوق ما صادفته البلاد فى عهد المماليك. أم على العكس من ذلك مراجعا فكرة التورييث مقرا بالواقع السياسى الذى بات محتاجا بشدة للعودة الى الشعب والى الديموقراطية والحرية. ان التصدى للتوريث هو جزء من كل، فهو يرتبط كليا وجزئيا بالاصلاح السياسى الطوعى أو القسري. وفى ظل الواقع السياسى الراهن يكون من ضرب الأوهام أن نتوقع إصلاحا من خلال الانتخابات، وقد غرقت نخبنا فى رومانسيتها فراحت تدعو منذ أيام فقط الى خوض الاستحقاقات الانتخابية القادمة مع اخضاع التصويت لرقابة دولية، وهذا تناول يتسم بالسذاجة وافتراض حسن النوايا، الحقائق على الأرض تؤكد لنا أنه لا أصلاح سياسيا فى ظل قناعات وتوجهات النظام الحالي، وأنه لا مخرج لهذه الأزمة إلا عصيان مدنى شامل وقوى يستطيع الضغط الفاعل من أجل تحقيق سلامة الاقتراع وعدم تزويره، وبغير ذلك يصبح التحدث عن الديمقراطية والحرية أضغاث أحلام. حفظك الله يا مصر فانت عزيزة بأبنائك وتراثك ولن تلبثى طويلا فى مخالب قوى الفساد والشمولية .