أهدأت تلك الحرب الشعواء، وعاد الغاضبون إلى رشدهم؟! أرى الجلبة قد خفت بعد أسابيع من جعجعة بلا طحن، وضجيج بلا مبرر. غير أن ثمة جانباً مشرقاً هو أنه فى ظل هذا الهدوء النسبى، بوسع الإنسان أن يسمع الآخر، بعدما كان «لا صوت يعلو على صوت المعركة» طوال الأيام الماضية، التى شعرت فيها بأن الحديث لن يكون مجديا وسط تلك الضجة الإعلامية، والصخب الجماهيرى. عدة محاور شغلتنى فى تلك الأزمة المفتعلة، أولها الرأى العام، الذى هالنى انجرافه، كبيرا وصغيرا، وراء محترفى التهييج ومدعى النجومية. كنت دائما أرى أن توجهات الرأى العام الجماعية العفوية لا تعبر بالضرورة عن منطقية ما يتجهون إليه. والآن بِتُّ على يقين من صحة اعتقادى، فأيا كان ما فعلته «قلة» غوغائية إجرامية جاهلة غير متحضرة من الجزائريين، لا يبرر ذلك، برأى، تحت أى ظرف رد فعل تلك الغالبية الكاسحة من الشعب المصرى، فمنذ متى كانت الخطيئة مبرراً كافياً لخطيئة أكبر جرماً؟! أستغرب أصدقائى المكلومين، اليوم، وهم يحسبنون على الجزائريين بعد «نكسة 18 نوفمبر»، وكانوا هم الشامتين المختالين بفوزهم بعد المباراة الأولى. أتعجب لشكواهم من انحدار أخلاق الجزائريين، وهم أنفسهم الذين بعثوا لى برسائل إلكترونية خجلت أنا من وقاحة مضمونها بحق الشعب الجزائرى. ثم وبعد استحضار لغة «الأنا»، وبعد «معايرتهم» بأننا من ساعدناهم على التحرر من الاستعمار، وبعد استحضار «ارقصى يا خضرة»، ألن يكون الرد علينا بأننا بلد «فيفى عبده»، منطقيا فى هذا السياق؟ وبالمناسبة، ما من عربى أو جزائرى قابلته إلا وعاتبنى بأن الكل يعرف أن مصر هى أم الدنيا، ويتساءلون «لماذا سحبتم الثابت على المتغير؟»، بمعنى لماذا عايرناهم بأننا من حررنا بلدهم، وهو ما لم ينكروه أبدا، لمجرد أن قلة حمقاء منهم تصرفت بإرهاب غوغائى؟ سمعت العتاب الهامس ولسان حالى يقول: «وهل تظل الأم أماً لو عايرت أبناءها؟!»!! أما المحور الثانى فيتمثل فى الإعلام، الذى أتصور أننا ضربنا به رقما قياسيا فى ظاهرة ما يعرف بال«ميديا فرينزى» أو «هوس الإعلام»، الذى تنساق جميع جهاته عميانا وراء حدث يفرض نفسه على الساحة لتدور جميع التغطيات حول نقطة واحدة، يقود فيها الإعلام الجماهير للتركيز عليها دون وعى. ثالثا وأخيرا، المحور السياسى، فعندما انشغلت بأسباب عدم انتقال أجواء هذا الصراع الدامى إلى المصريين والجزائريين المقيمين خارج حدود أوطانهم، وجدت أن المحيطين السياسى والفكرى، اللذين يعيش فيهما المهاجرون العرب، يلعبان الدور الرئيسى، فأقرانهم فى مصر أو الجزائر، يعانون تبعات كبت الحريات، والقائل إن الملاعب الخضراء ما هى إلا حقل خصب للتنفيس عن الآراء السياسية فى الدول غير الديمقراطية، أصاب كبد الحقيقة، فعلى مدرجات بلادنا فقط يصرخ المشجعون (متشطرين على البردعة بعدما فشلوا فى النيل من الحمار)، معلنين انتماءاتهم الكروية، رافعين أعلام أحزابهم الرياضية، وواقعين تحت تأثير تلك «الساحرة المستديرة»، آسرة قلوب الرجال، تاركين أنفسهم لإعلام ٍ يعشق الإثارة، ومطلقين عواطفهم الوطنية التى لا تجد لها متنفسا، سوى بين شبكتى مرمى.. دون تسديد أى أهداف. [email protected]