وجعلت تهبط السلم مستندة على درابزينه، حتى إذا ما وصلت باب الدار فتحته وبقيت ساكنة بجانب السياج، تتطلع حيث جارنا العجوز الذى يستقر بموضعه كل مساء فى انتظار الغزلان، متأملا الفضاء الذى ينتهى بالجبل، واضعا يده على كتف حفيدته التى تقوده ساعة الصعود. قالت لى: «يصعد كل مساء ليرى الغزلان» فى الليل ماتت بربو مزمن. وكنت سمعتها تهمس لى: «جنازة طيبة، وكمل جميلك وازرع صبارة بأربعة فروع، وأقم شاهدا بوجه حسن، وحاذر أن ترانى ساعة غسلى إحدى الجارات، وأن يقرأ على قبرى شيخ من العميان». سويت فتحة المقبرة ودعكتها بالتبن والطين وقلت: «من التراب للتراب» ورششت الماء، وزرعت فى المكان صبارة بفروع أربعة. «صرت وحيدا الآن، ويتيما على كبر». عدت أتذكر ما قالته لى وابتسامة شاحبة على وجهها». «كنت أود أن أراك زوجا، وصاحب عيال قبل أن أموت». إلا أنها ماتت وكل ما تركته لى بيتنا القديم، وقلة حيلتى والعزوف عن الناس، ومعرفتى المذهلة بطوالع النجوم ومواعيد سفر القطارات، وعادة التفرج على القباب القديمة والحلم بتماثيل العاج، وعشق المبانى العتيقة التى سكنها الأفضلون. «وعندما فتحت باب حجرتها هبت رائحة الذين هرموا، وطلبت منها أن تدعو لى، لكنها طلبت منى أعمل لها «كاسات الهواء» لأنها تريها على البعد الضفاف البعيدة للجنة، وأحضرت «كاسات الهواء» التى لها شكل قناديل المساجد، والتى من طول الركنة ما عادت تحتفظ بنفس الشفافية القديمة، وجعلت أضع فى كل كأس قطعة من الورق المشتعل وألصقه بظهرها، حتى إذا ما انتهيت بدا لى ظهرها منورا بذبالات غير خافقة، وكنت أسمعها تقول: إنها ترى الجنة». وكنت أقف بجانب السياج الذى يحوط مثوانا منتظرا أبى الغائب الذى سوف يعود حتما وقد اصطاد إحدى طرائده، وقد حملها على ظهره، والذى سوف يسألنى عنها إن كانت ماتزال هى تشاهد الضفاف البعيدة للجنة؟ «وكنت أنتزع «كاسات الهواء» من فوق ظهرها، وأسمعها تشهق بالهواء المحبوس، وأرى ذبالاتها وقد خبت، وتحولت إلى رماد أسود هش فى الحجرة ويحط فى الأركان، وأراها هى وقد غفت فى النور الشحيح للمصباح الذى ينفذ زيته». تأملت الصور المعلقة على الجدار، وأدركت بعد هذا العمر أننى آخر فروع أسرتى، وأننى آخر من بكى الراحلين منهم، والذى تلا الصلوات القليلة على أرواحهم، وآخر من أطفأ مصابيحهم التى تضىء حجرات الولائم. وخفتُ أننى لن أجد عند موتى من يسبل جفنى. مصمصت شفتى ومكثت أنظر عبر النافذة إلى الصحراء، وأسمع صوت الريح وأتذكر رعب اللحاد الذى سمع نفس الصوت يزوم داخل المقبرة وهو يواريها التراب، والذى أطل برأسه هلعا، وصاح بى «فى القبر صوت يزوم»، ولما أخبرته «إنها الريح» عاد وأكمل مراسيمه. لم يكن جارنا العجوز الذى يجلس كل يوم عند السياج قد ظهر بعد. «غير أنها خرجت مع نور الشفق وبيدها حجابى المكسو بجلد شاة الراعى الطيب، والمخيط بخيط أمعاء فطيسة حيوان الجبل الذى يترصده أبى من قديم، والتى كنت أطاردها وأنا صغير حتى جحور الثعابين، وجعلت تنظر ناحيتى رافعة حجابى للشمس وقالت لى: «كنت تلبسه حتى أدركت البلوغ». وتذكرت أننى عندما سألتها عن لغة الحجاب أجابتنى بأنها كلمات تحفظ العمر، ثم مشت قليلا ونظرت ناحيتى وقالت: «على أى حال إن أحدا يعيش أفضل من الموتى جميعا». وكلما استبدت بى وحدتى نظرت لجدران البيت وهالنى أننى أمضيت بين جدرانه أربعين سنة، وثمة أسى يلازمنى طوال هذا العمر المديد، يسبب لى فى أحيان كثيرة إحساسا بخيبة الرجاء يجعلنى أشك فى كل الأحوال فى تلك الأمانى القديمة، والتى كنت أعزوها فى ماضى الأيام إلى أهمية خاصة وذهب بها العدم بلا أسف، وتساءلت: «ما الذى سوف يكون عليه حالى»؟ يجلس العجوز عند السياج، تحت تعريشة اللبلاب يستند بظهره للجزورينا التى تصدر صوتا كلما فاضت بها الريح، والتى تحمل الآن رائحة الرمال، كان ينظر بعينين صغيرتين عبر السهل الممتد، الذى يفصل الدار عن الجبل. «وعندما توسط الظل عارضة الشباك سمعت الغناء من الأسطوانة القديمة، التى تلتمع على سطحها بقعة اللون الزرقاء، ورأيتها ترتدى فستانا من الحرير الأخضر المشجر بالزهور البرية، وينسدل على هيكلها الضامر والذى كنت أظن أنه لن يقهر، وعندما دخلت حجرتها سمعت سعلاتها الخشنة فأدركت دنو أجلها، وجمعت أطراف عباءتى على صور أجدادى الذين مكثوا هنا زمنا ثم رحلوا. قلت للرجل العجوز «تأخرت» فابتسم كليل البصر، وأخذ يأكل خديه الأدردين بفكه الخالى من الأسنان، وقال لى «لم العجلة؟ إن تكرار العيش، والإحساس بقصر العمر يصونان من الموت المفاجئ».. قلت له «البعد عن العمار رفقة للوحدة، ومضيعة لزمن نحتاجه، المكان هنا مقطوع بدرجة مروعة».. قال لى «الوحدة خير من رفقة أهل السوء، خاصة وأنت تعرف أننى على موعد مع الغزلان».. ونظر عبر الجبل وعاد يقول لى «إن كان على إنسان أن يموت فأنا الأولى بذلك.. أنت لا تعرف حقيقة بأس الحياة.. أنت صغير وخالى الوفاض بدرجة مؤسية.. أعلم أننى لم أعشق فى حياتى مثل الغزلان، ذلك الهادئ العطوف، هل نظرت فى عين غزالة؟.. أظنك لم تفعل.. قلت له «عين غزالة؟»، قال «نعم..» ثم قال «لقد عشقت الغزلان بعد أن شربت من دمائها الكثير». وعاد ينظر إلى الجبل ويسعل فينتفض جسمه الصغير فيما يدق الأرض بعصاه الذى يسند وجهه على عقفتها.. قال لى «إن العجوز الذى أمامك كان يحترف صيد الغزلان زمان اشتغلت فى السودان، وأمضيت به نصف عمرى، وكنا نأخذ «اللاندروفر» ونذهب للصيد، وكنت أسمع السودانية وهم يصيحون فى فرح «نسعى للصيد وشفاء الروح»، وكانت البرارى أمامنا مفتوحة، وكنا نخاف من الوحش المفترس الذى نتوقع ظهوره فى كل لحظة، والذى يسكن الغابة». تنحنح وسعل ودق فى الأرض عصاه، ولمحت معلقا على بابه صقرا محنطا فاردا جناحيه يدور كلما دارت به الريح، عاد يقول «كانت السيارة تطارد الغزلان كالقدر، ولم نكن نطلق عليها النار، وكنا نقول: لسوف تسقط من الإعياء، وكانت تظل ترمح حتى آخر الشوط عند ذلك أنظر فى عيونها.. كانت تطلق استغاثة الفرار، وعندما تسقط نفتح بطونها وهى حية، وننتزع أكبادها حية كانت تغلى من تعب المطاردة ثم نقطعه شرائح ونضيف له التوابل ونلتهمه». تساءلت «حيا»؟ قال لى: «نعم حيا، لكم التهمت من أكباد حية»، وعاد يقول «إن لله يوما يصيح فيه: «انهضوا فتتجمع العظام فوق التراب وتنهض». تنهدت واكتسحتنى ذكرى الغائبين وقلت له «إن أحدا لن ينهض، وإن الله لن يقول للتراب انهضوا». خرجت حفيدته الصغيرة من البيت ولعبت تحت التعريشة ثم طاردت فراشة وصاحت به «جدى الشمس تعود» وأشارت بيدها ناحية الشمس التى اخترقت فى المغارب مثواها. نهض العجوز وأدخل قدميه فى حذاء قديم عند ذلك لمحت أظافره محشوة بالتراب. وطئ ظل الرجل ظلى فأفسحت له الطريق، وابتسمت لى الحفيدة بعينيها اللوزيتين، ومسحت على شعرها الطويل، الأسود. قال لى العجوز: «بالإذن» قلت له «لم نستكمل الحديث بعد».. أجاب «غدا إذا جاء سوف نكمل».. وعاد ينظر للشمس قرب بيت الرب، قريبة من عرشه، وقال لى «ألا ترى الشمس فى أى مكان؟». سحبته البنت من أمامى وسارا يثيران التراب متوجهين ناحية الجبل، وأخذا يصعدان قمته التى لم تكن عالية، والتى تشتعل بشفق كدم الغزلان. بعد قليل خرجت من إبط الجبل الغزلان الصغيرة تتواثب وتركض ناحية العجوز والحفيدة، كانت تخرج لا أعرف من أين؟.. إلا أننى رأيت الجبل وقد امتلأ بالثغاء الجميل.. كانت الغزلان تلحس كف الرجل فى حنية الأطفال البررة، وكنت أسمع صوت الرجل وكأنه ينتحب فيما تربت البنت بكفها الصغيرة على ظهرها. حملت روحى المنهكة وعدت لدارى عند التخوم بين أن تترك روحك على الجبل، أو أن تعود بدونها سرت على الممر بين الزهرات الصفر، والعابرين إلى الماضى حيث نار الله وجنته. فوجئت صالة البيت مضاءة، نور يشع فى الأركان، صوت الأسطوانة يعلو بتراتيل أندلسية، وضعت يدى على قلبى وقلت «طوبى للراحلين»، وتنشقت الغناء القديم، ورائحة من ذهبوا، وتردد بداخلى صوت العجوز «نسعى للصيد وشفاء الروح». من الطابق الأعلى جاءنى صوتها.. نفس الصوت الذى ينادينى منذ أربعين سنة: «أبوالسعد» هل عدت؟ أجبت بطاعة الأبناء البررة. نعم يا أمى.. عدت. لسوف أغلق باب المجاز.