سعر الريال السعودي اليوم الثلاثاء 23-4-2024 في بداية التعاملات    انخفاضات ملحوظة في أسعار السلع والمنتجات الغذائية في السوق المصرية بعد تدخل حكومي    أسعار الأسمنت اليوم الثلاثاء 23 - 4 - 2024 في الأسواق    آخر مستجدات تطور العلاقات المصرية الفرنسية في عهد السيسي وماكرون    مقتل 10 أشخاص إثر تحطم مروحتين في شمال غرب ماليزيا    وزير خارجية إيران: نأسف لقرار الاتحاد الأوروبي فرض قيود "غير قانونية" على طهران    عصابة القتلة تضحى برئيس الاستخبارات.. استقالة أهارون حاليفا معترفا بالفشل    الجيش الأوكراني: خسائر روسيا القتالية في أوكرانيا ترتفع إلى 461 ألفًا    موعد مباراة الزمالك القادمة والقنوات الناقلة    محافظ شمال سيناء يستقبل وزير الشباب والرياضة    الإسماعيلي: ندفع بأحمد الشيخ تدريجيا لهذا السبب.. ونجهز اللاعبين للأهلي    الثانوية العامة 2024.. تعرف علي مواصفات ورقة امتحان اللغة الأجنبية الثانية    «الأرصاد» تحذر من حالة الطقس اليوم الثلاثاء 23-4-2024 والموجة الحارة لمدة 72 ساعة    حالة الطرق اليوم، زحام مروري بشوارع ومحاور القاهرة والجيزة    بعد قليل.. استكمال محاكمة المتهمين في قضية فساد الري    ندوة بجامعة القاهرة لتشجيع وتوجيه الباحثين لخدمة المجتمع وحل المشكلات من وجهة نظر جغرافية    التهاب الجيوب الأنفية الحاد: أعراض ووقاية    وول ستريت تتعافى وارتفاع داو جونز 200 نقطة وخروج S&P500 من دائرة الخسارة    أزمة لبن الأطفال في مصر.. توفر بدائل وتحركات لتحديد أسعار الأدوية    مصرع عامل غرقًا بمياه الترعة في سوهاج    مُسن يطلق النار على عامل بسوهاج والسبب "مسقى مياه"    مصر تستهدف زيادة إيرادات ضريبة السجائر والتبغ بنحو 10 مليارات جنيه في 2024-2025    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 23-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بدرية طلبة تشارك جمهورها فرحة حناء ابنتها وتعلن موعد زفافها (صور)    نيللي كريم تظهر مع أبطال مسلسل ب100 وش.. وتعلق: «العصابة رجعت»    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    بالأرقام.. تفاصيل توزيع مخصصات الأجور في الموازنة الجديدة 2025 (جداول)    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الثلاثاء 23 أبريل 2024    إزالة 14 حالة تعد بمركز ومدينة التل الكبير بمحافظة الإسماعيلية    لبنان.. شهيد جراء قصف طيران الجيش الإسرائيلي سيارة في محيط بلدة عدلون    ملتقى القاهرة الأدبي.. هشام أصلان: القاهرة مدينة ملهمة بالرغم من قسوتها    مصرع عامل دهسه قطار الصعيد في مزلقان سمالوط بالمنيا    الرئيس البولندي: منفتحون على نشر أسلحة نووية على أراضينا    اتحاد الكرة يوضح حقيقة وقف الدعم المادي لمشروع «فيفا فورورد»    أستاذ مناعة يحذر من الباراسيتامول: يسبب تراكم السموم.. ويؤثر على عضلة القلب    إجازة كبيرة للموظفين.. عدد أيام عطلة شم النسيم 2024 للقطاعين بعد ترحيل عيد العمال    بلينكن ينفي "ازدواجية المعايير" في تطبيق القانون الأمريكي    رئيس الوزراء يهنئ وزير الدفاع بعيد تحرير سيناء سيناء    بشرى سارة لجمهور النادي الأهلي بشأن إصابات الفريق    عاجل.. صفقة كبرى على رادار الأهلي الصيف المقبل    بعد وفاته في تركيا، من هو رجل الدين اليمني عبد المجيد الزنداني؟    نصائح مهمة لمرضى الجهاز التنفسي والحساسية خلال الطقس اليوم    الكونجرس يشعر بالخطر.. أسامة كمال: الرهان على الأجيال الجديدة    اتحاد عمال مصر ونظيره التركي يوقعان اتفاقية لدعم العمل النقابي المشترك    خلال ساعات العمل.. أطعمة تجعل الجسم أكثر نشاطا وحيوية    عبدالجليل: دور مدير الكرة في الأهلي ليس الاعتراض على الحكام    «فلسطين توثق المجازر».. فعاليات متعددة في رابع أيام مهرجان أسوان (تعرف عليها)    علي هامش انعقاد مؤتمر الاتحاد العربي.. 11 دولة عربية في ضيافة النقابة العامة للغزل والنسيج بالقاهرة    عامر حسين: الأهلي احتج على مشاركة حارس الاتحاد السكندري    الشرطة تداهم أوكار الكيف.. سقوط 85 ديلر مخدرات في الإسكندرية    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    علي جمعة عن سبب تقديم برنامج نور الدين: ربنا هيحاسبني على سكوتي    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 23 أبريل في محافظات مصر    مصرع شخص وإصابة 2 في تصادم 3 تريلات نقل بالوادي الجديد    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سعيد الكفراوى: صيد الغزلان
نشر في الشروق الجديد يوم 08 - 02 - 2010

وجعلت تهبط السلم مستندة على درابزينه، حتى إذا ما وصلت باب الدار فتحته وبقيت ساكنة بجانب السياج، تتطلع حيث جارنا العجوز الذى يستقر بموضعه كل مساء فى انتظار الغزلان، متأملا الفضاء الذى ينتهى بالجبل، واضعا يده على كتف حفيدته التى تقوده ساعة الصعود.
قالت لى:
«يصعد كل مساء ليرى الغزلان»
فى الليل ماتت بربو مزمن.
وكنت سمعتها تهمس لى:
«جنازة طيبة، وكمل جميلك وازرع صبارة بأربعة فروع، وأقم شاهدا بوجه حسن، وحاذر أن ترانى ساعة غسلى إحدى الجارات، وأن يقرأ على قبرى شيخ من العميان».
سويت فتحة المقبرة ودعكتها بالتبن والطين وقلت:
«من التراب للتراب»
ورششت الماء، وزرعت فى المكان صبارة بفروع أربعة.
«صرت وحيدا الآن، ويتيما على كبر».
عدت أتذكر ما قالته لى وابتسامة شاحبة على وجهها».
«كنت أود أن أراك زوجا، وصاحب عيال قبل أن أموت».
إلا أنها ماتت وكل ما تركته لى بيتنا القديم، وقلة حيلتى والعزوف عن الناس، ومعرفتى المذهلة بطوالع النجوم ومواعيد سفر القطارات، وعادة التفرج على القباب القديمة والحلم بتماثيل العاج، وعشق المبانى العتيقة التى سكنها الأفضلون.
«وعندما فتحت باب حجرتها هبت رائحة الذين هرموا، وطلبت منها أن تدعو لى، لكنها طلبت منى أعمل لها «كاسات الهواء» لأنها تريها على البعد الضفاف البعيدة للجنة، وأحضرت «كاسات الهواء» التى لها شكل قناديل المساجد، والتى من طول الركنة ما عادت تحتفظ بنفس الشفافية القديمة، وجعلت أضع فى كل كأس قطعة من الورق المشتعل وألصقه بظهرها، حتى إذا ما انتهيت بدا لى ظهرها منورا بذبالات غير خافقة، وكنت أسمعها تقول: إنها ترى الجنة».
وكنت أقف بجانب السياج الذى يحوط مثوانا منتظرا أبى الغائب الذى سوف يعود حتما وقد اصطاد إحدى طرائده، وقد حملها على ظهره، والذى سوف يسألنى عنها إن كانت ماتزال هى تشاهد الضفاف البعيدة للجنة؟
«وكنت أنتزع «كاسات الهواء» من فوق ظهرها، وأسمعها تشهق بالهواء المحبوس، وأرى ذبالاتها وقد خبت، وتحولت إلى رماد أسود هش فى الحجرة ويحط فى الأركان، وأراها هى وقد غفت فى النور الشحيح للمصباح الذى ينفذ زيته».
تأملت الصور المعلقة على الجدار، وأدركت بعد هذا العمر أننى آخر فروع أسرتى، وأننى آخر من بكى الراحلين منهم، والذى تلا الصلوات القليلة على أرواحهم، وآخر من أطفأ مصابيحهم التى تضىء حجرات الولائم.
وخفتُ أننى لن أجد عند موتى من يسبل جفنى.
مصمصت شفتى ومكثت أنظر عبر النافذة إلى الصحراء، وأسمع صوت الريح وأتذكر رعب اللحاد الذى سمع نفس الصوت يزوم داخل المقبرة وهو يواريها التراب، والذى أطل برأسه هلعا، وصاح بى «فى القبر صوت يزوم»، ولما أخبرته «إنها الريح» عاد وأكمل مراسيمه.
لم يكن جارنا العجوز الذى يجلس كل يوم عند السياج قد ظهر بعد.
«غير أنها خرجت مع نور الشفق وبيدها حجابى المكسو بجلد شاة الراعى الطيب، والمخيط بخيط أمعاء فطيسة حيوان الجبل الذى يترصده أبى من قديم، والتى كنت أطاردها وأنا صغير حتى جحور الثعابين، وجعلت تنظر ناحيتى رافعة حجابى للشمس وقالت لى: «كنت تلبسه حتى أدركت البلوغ».
وتذكرت أننى عندما سألتها عن لغة الحجاب أجابتنى بأنها كلمات تحفظ العمر، ثم مشت قليلا ونظرت ناحيتى وقالت: «على أى حال إن أحدا يعيش أفضل من الموتى جميعا».
وكلما استبدت بى وحدتى نظرت لجدران البيت وهالنى أننى أمضيت بين جدرانه أربعين سنة، وثمة أسى يلازمنى طوال هذا العمر المديد، يسبب لى فى أحيان كثيرة إحساسا بخيبة الرجاء يجعلنى أشك فى كل الأحوال فى تلك الأمانى القديمة، والتى كنت أعزوها فى ماضى الأيام إلى أهمية خاصة وذهب بها العدم بلا أسف، وتساءلت: «ما الذى سوف يكون عليه حالى»؟
يجلس العجوز عند السياج، تحت تعريشة اللبلاب يستند بظهره للجزورينا التى تصدر صوتا كلما فاضت بها الريح، والتى تحمل الآن رائحة الرمال، كان ينظر بعينين صغيرتين عبر السهل الممتد، الذى يفصل الدار عن الجبل.
«وعندما توسط الظل عارضة الشباك سمعت الغناء من الأسطوانة القديمة، التى تلتمع على سطحها بقعة اللون الزرقاء، ورأيتها ترتدى فستانا من الحرير الأخضر المشجر بالزهور البرية، وينسدل على هيكلها الضامر والذى كنت أظن أنه لن يقهر، وعندما دخلت حجرتها سمعت سعلاتها الخشنة فأدركت دنو أجلها، وجمعت أطراف عباءتى على صور أجدادى الذين مكثوا هنا زمنا ثم رحلوا.
قلت للرجل العجوز «تأخرت» فابتسم كليل البصر، وأخذ يأكل خديه الأدردين بفكه الخالى من الأسنان، وقال لى «لم العجلة؟ إن تكرار العيش، والإحساس بقصر العمر يصونان من الموت المفاجئ».. قلت له «البعد عن العمار رفقة للوحدة، ومضيعة لزمن نحتاجه، المكان هنا مقطوع بدرجة مروعة».. قال لى «الوحدة خير من رفقة أهل السوء، خاصة وأنت تعرف أننى على موعد مع الغزلان».. ونظر عبر الجبل وعاد يقول لى «إن كان على إنسان أن يموت فأنا الأولى بذلك.. أنت لا تعرف حقيقة بأس الحياة.. أنت صغير وخالى الوفاض بدرجة مؤسية.. أعلم أننى لم أعشق فى حياتى مثل الغزلان، ذلك الهادئ العطوف، هل نظرت فى عين غزالة؟.. أظنك لم تفعل.. قلت له «عين غزالة؟»، قال «نعم..» ثم قال «لقد عشقت الغزلان بعد أن شربت من دمائها الكثير».
وعاد ينظر إلى الجبل ويسعل فينتفض جسمه الصغير فيما يدق الأرض بعصاه الذى يسند وجهه على عقفتها.. قال لى «إن العجوز الذى أمامك كان يحترف صيد الغزلان زمان اشتغلت فى السودان، وأمضيت به نصف عمرى، وكنا نأخذ «اللاندروفر» ونذهب للصيد، وكنت أسمع السودانية وهم يصيحون فى فرح «نسعى للصيد وشفاء الروح»، وكانت البرارى أمامنا مفتوحة، وكنا نخاف من الوحش المفترس الذى نتوقع ظهوره فى كل لحظة، والذى يسكن الغابة».
تنحنح وسعل ودق فى الأرض عصاه، ولمحت معلقا على بابه صقرا محنطا فاردا جناحيه يدور كلما دارت به الريح، عاد يقول «كانت السيارة تطارد الغزلان كالقدر، ولم نكن نطلق عليها النار، وكنا نقول: لسوف تسقط من الإعياء، وكانت تظل ترمح حتى آخر الشوط عند ذلك أنظر فى عيونها.. كانت تطلق استغاثة الفرار، وعندما تسقط نفتح بطونها وهى حية، وننتزع أكبادها حية كانت تغلى من تعب المطاردة ثم نقطعه شرائح ونضيف له التوابل ونلتهمه».
تساءلت «حيا»؟ قال لى: «نعم حيا، لكم التهمت من أكباد حية»، وعاد يقول «إن لله يوما يصيح فيه: «انهضوا فتتجمع العظام فوق التراب وتنهض». تنهدت واكتسحتنى ذكرى الغائبين وقلت له «إن أحدا لن ينهض، وإن الله لن يقول للتراب انهضوا».
خرجت حفيدته الصغيرة من البيت ولعبت تحت التعريشة ثم طاردت فراشة وصاحت به «جدى الشمس تعود» وأشارت بيدها ناحية الشمس التى اخترقت فى المغارب مثواها.
نهض العجوز وأدخل قدميه فى حذاء قديم عند ذلك لمحت أظافره محشوة بالتراب.
وطئ ظل الرجل ظلى فأفسحت له الطريق، وابتسمت لى الحفيدة بعينيها اللوزيتين، ومسحت على شعرها الطويل، الأسود.
قال لى العجوز: «بالإذن» قلت له «لم نستكمل الحديث بعد».. أجاب «غدا إذا جاء سوف نكمل».. وعاد ينظر للشمس قرب بيت الرب، قريبة من عرشه، وقال لى «ألا ترى الشمس فى أى مكان؟».
سحبته البنت من أمامى وسارا يثيران التراب متوجهين ناحية الجبل، وأخذا يصعدان قمته التى لم تكن عالية، والتى تشتعل بشفق كدم الغزلان.
بعد قليل خرجت من إبط الجبل الغزلان الصغيرة تتواثب وتركض ناحية العجوز والحفيدة، كانت تخرج لا أعرف من أين؟.. إلا أننى رأيت الجبل وقد امتلأ بالثغاء الجميل.. كانت الغزلان تلحس كف الرجل فى حنية الأطفال البررة، وكنت أسمع صوت الرجل وكأنه ينتحب فيما تربت البنت بكفها الصغيرة على ظهرها.
حملت روحى المنهكة وعدت لدارى عند التخوم بين أن تترك روحك على الجبل، أو أن تعود بدونها سرت على الممر بين الزهرات الصفر، والعابرين إلى الماضى حيث نار الله وجنته.
فوجئت صالة البيت مضاءة، نور يشع فى الأركان، صوت الأسطوانة يعلو بتراتيل أندلسية، وضعت يدى على قلبى وقلت «طوبى للراحلين»، وتنشقت الغناء القديم، ورائحة من ذهبوا، وتردد بداخلى صوت العجوز «نسعى للصيد وشفاء الروح».
من الطابق الأعلى جاءنى صوتها.. نفس الصوت الذى ينادينى منذ أربعين سنة:
«أبوالسعد» هل عدت؟
أجبت بطاعة الأبناء البررة.
نعم يا أمى.. عدت. لسوف أغلق باب المجاز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.