صورة المصريين، مساء أمس، وهم يحدقون فى شاشات التليفزيون أو يتابعون عبر الراديو منتخب بلادهم وهو يلعب أمام نيجيريا.. لم تكن صورة جديدة فى مصر أو للمصريين.. ولا تتخيلوا أننى أقصد الصور المتكررة لمنتخبنا فى مبارياته طيلة السنوات القليلة الماضية.. وإنما هى صورة قديمة جدا.. أقدم وأعمق مما يتصور كثيرون، سواء من عشاق كرة القدم أو الرافضين أن تحظى تلك اللعبة بكل هذا الاهتمام والتأثير.. حتى برقيات الرئيس مبارك لتهنئة المنتخب عند انتصاره أو للمواساة فى حالة الخسارة.. هى فى الحقيقة مجرد ميراث قديم بدأه الملك فؤاد، كأول حاكم لمصر يرسل مثل هذه البرقيات لمنتخب مصر لكرة القدم.. وقد بدأت الحكاية أصلا بالجنسية المصرية.. التى لم تظهر وتستخدم بشكل رسمى إلا منذ عام 1900.. حين صدرت فرمانات الدولة العلية.. أى العثمانية.. بإعلان مصر إمارة مستقلة فى إدارتها الداخلية.. وانتهت العلاقة القانونية بين مصر والدولة العثمانية بعد إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914.. ثم صدر تصريح 28 فبراير عام 1922، الذى بمقتضاه أصبحت مصر دولة مستقلة ذات سيادة لأول مرة فى تاريخها.. وكان أول حدث تخرج فيه الجنسية المصرية إلى النور بمنتهى التحدى والاعتزاز والكبرياء.. مجرد مباراة لكرة القدم.. مباراة مصر مع تركيا فى دورة أمستردام الأوليمبية عام 1928.. كانت مباراة صعبة ومهمة وشديدة الحساسية.. كانت مواجهة أكثر عمقا من مجرد مباراة لكرة القدم.. فلم ينس المصريون بعد أنهم عاشوا طويلا فى وطن كان.. حتى سنوات قليلة مضت.. مجرد ولاية عثمانية يحكمها السلطان التركى الأعظم.. حيث الأتراك هم السادة والحكام.. الطبقة العليا التى تأمر وتنهى.. وتمنح وتمنع.. فإذ بالمقادير تمنح الفلاحين المصريين.. عبر كرة القدم.. فرصة إثبات أنهم ليسوا أقل قوة أو شأنا من الأتراك، أسياد الماضى البعيد والقريب.. ولهذا لم يكن من المستغرب أن تصدر جريدة الاهرام فى يوم المباراة.. الثامن والعشرين من شهر مايو عام 1928.. وتحت عنوان دعوة لإخواننا المسلمين.. كتبت جريدة الأهرام تقول: نطلب إلى كل رياضى مصرى أن يقف حول منتصف الخامسة بعد ظهر اليوم متجها نحو القبلة، داعيا رب العالمين أن ينصر عبيده وأبناء عبيده لاعبى الكرة من المصريين على إخوانهم الأتراك فى ميدان أمستردام.. ولعب المصريون.. أجادوا وتألقوا.. وفازوا على الأتراك بسبعة أهداف مقابل هدف واحد لتركيا.. وفاضت الفرحة والبهجة فى القاهرة ومصر كلها.. وكما شهدت هذه المباراة قبل أن تقام الصحافة المصرية لأول مرة تناشد المصريين الدعاء بالتوفيق لمنتخب مصر لكرة القدم قبل أن يلعب.. شهدت هذه المباراة أيضا لأول مرة ملك مصر يهتم بكرة القدم إلى هذا الحد.. الملك فؤاد.. وأن يبادر جلالته بإرسال برقية كتبها كبير أمناء القصر قال فيها: حضرة فؤاد بك أنور رئيس البعثة المصرية بأمستردام.. كلفنى جلالة الملك.. ولى نعمتنا الأعظم.. أن أشكركم وكذلك الفريق المصرى.. وأن يهنئكم بالانتصار الذى أحرزتموه.. ومع تمنيات جلالته لكم بالعيد السعيد والنجاح المستمر.. فإن جلالته يضيف عبارات محبته الأبوية.. ومنذ ذلك التاريخ لا يستمتع المصريون بمصريتهم أو يحزنون لها.. إلا فى مباريات كرة القدم. [email protected]