القومي للمرأة ينظم لقاء تنسيقي مع محافظة القاهرة    عيار 21 مفاجأة.. تراجع كبير في أسعار الذهب اليوم بالتعاملات المسائية    بالصور.. تنفيذ إزالة على الرقعة الزراعية بقرية تفهنا العزب بزفتى    إيران لمجلس الأمن: استهداف إسرائيل دفاع عن النفس    إيران: إحالة 28 متهمًا في 15 قضية متصلة بإسرائيل إلى النيابة العامة    ليتوانيا تبدأ إجلاء مواطنيها من إسرائيل برًا مع تصاعد التوترات مع إيران    زيلينسكي يطالب خلال زيارته لفيينا بفرض المزيد من العقوبات على روسيا    كأس العالم للأندية| تشكيل تشيلسي لمواجهة لوس أنجلوس    وفاة مسن داخل مطار القاهرة إثر أزمة قلبية مفاجئة    مقتل فتاة بإحدى قرى كفر الشيخ في ظروف غامضة    ذكريات تترات الدراما المصرية تشعل مشاعر الحنين فى حفل كامل العدد بالأوبرا    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على محاولات إسرائيل تدمير البرنامج النووي الإيراني    معتز هشام يكشف تفاصيل دوره في مسلسل«ابن النصابة»    بعد العيد.. 5 مشروبات طبيعية تساعدك على استعادة رشاقتك بطريقة صحية    تأجيل محاكمة 11 متهما بالانضمام لجماعة إرهابية فى الجيزة ل8 سبتمبر    نراهن على شعبيتنا.. "مستقبل وطن" يكشف عن استعداداته للانتخابات البرلمانية    وزير الثقافة: تدشين منصة رقمية للهيئة لتقديم خدمات منها نشر الكتب إلكترونيا    وائل جسار يجهز أغاني جديدة تطرح قريبا    "كوميدي".. أحمد السبكي يكشف تفاصيل فيلم "البوب" ل أحمد العوضي    ما الفرق بين الركن والشرط في الصلاة؟.. دار الإفتاء تُجيب    وزير خارجية إيران: مكالمة من ترامب تنهي الحرب    طبيب يقود قوافل لعلاج الأورام بقرى الشرقية النائية: أمانة بعنقي (صور)    العثور على جثة شاب مصاب بطلق ناري في ظروف غامضة بالفيوم    محافظ الدقهلية يتفقد أعمال إنشاء مجلس مدينة السنبلاوين والممشى الجديد    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد بنقابة المنوفية.. ويطالبهم بالتسلح بالفكر والعلم    لمست الكعبة أثناء الإحرام ويدي تعطرت فما الحكم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    ما هي علامات عدم قبول فريضة الحج؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أمين الفتوى يوضح حكم الجمع بين الصلوات في السفر    وزير العمل يستقبل المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب- صور    سي إن إن: إيران تستبعد التفاوض مع واشنطن قبل الرد الكامل على إسرائيل    البنك المركزي يطرح سندات خزانة ب16.5 مليار جنيه بسعر فائدة 22.70%    إلهام شاهين توجه الشكر لدولة العراق: شعرنا بأننا بين أهلنا وإخواتنا    مفوض الأونروا: يجب ألا ينسى الناس المآسي في غزة مع تحول الاهتمام إلى أماكن أخرى    البنك التجارى الدولى يحافظ على صعود المؤشر الرئيسى للبورصة بجلسة الاثنين    «لترشيد استخدام السيارات».. محافظ قنا يُعّلق على عودته من العمل ب «العجلة» ويدعو للتعميم    تقرير يكشف موعد خضوع فيرتز للفحص الطبي قبل الانتقال ل ليفربول    عضو ب«مركز الأزهر» عن قراءة القرآن من «الموبايل»: لها أجر عظيم    التضامن تعلن تبنيها نهجا رقميا متكاملا لتقديم الخدمات للمواطنين    افتتاح توسعات جديدة بمدرسة تتا وغمرين الإعدادية بالمنوفية    وفود دولية رفيعة المستوى تتفقد منظومة التأمين الصحي الشامل بمدن القناة    بعد عيد الأضحى‬.. كيف تحمي نفسك من آلالام النقرس؟    تخفيف عقوبة 5 سيدات وعاطل متهمين بإنهاء حياة ربة منزل في المنيا    النائب حازم الجندي: مبادرة «مصر معاكم» تؤكد تقدير الدولة لأبنائها الشهداء    إيراد فيلم ريستارت فى 16 يوم يتخطى إيراد "البدلة" في 6 شهور    تصنيف الاسكواش.. نوران جوهر ومصطفى عسل يواصلان الصدارة عالمياً    محمد عمر ل في الجول: اعتذار علاء عبد العال.. ومرشحان لتولي تدريب الاتحاد السكندري    «فيفا» يوجه رسالة جديدة للأهلي وإنتر ميامي بمناسبة افتتاح المونديال    وزير الصناعة والنقل يشهد توقيع عقد ترخيص شركة "رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري"    لا تطرف مناخي.. خبير بيئي يطمئن المصريين بشأن طقس الصيف    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    أسعار الأسماك بكفر الشيخ اليوم.. البلطي ب 80 جنيها    الينك الأهلي: لا نمانع رحيل أسامة فيصل للعرض الأعلى    إصابة 3 أشخاص بطلقات بندقية فى مشاجرة بعزبة النهضة بكيما أسوان    أمن الجيزة يضبط المتهمين بسرقة كابلات شركة فى كرداسة    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    إمام عاشور: ما حدث ليس غريبا على بيتي الأهلي.. وسأعود أقوى    الشرطة الإيرانية: اعتقال عميلين تابعين للموساد جنوب طهران    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. حسن نافعة يكتب: التغير المأمول فى سياسة مصر الخارجية الضرورات والمحددات والآفاق

ارتبطت سياسة مصر الخارجية على مر العصور بمعطيات جيواستراتيجية أملتها عوامل جغرافية وتاريخية اتسمت بثبات نسبى، فالجغرافيا جعلت من مصر دولة تعتمد اعتماداً شبه كلى على مياه نهر ينبع خارج أراضيها ويجرى داخل دول عدة قبل أن يصل إلى حدودها الجنوبية.
أما التاريخ فتشير دروسه إلى أن معظم الغزاة أتوا إلى مصر عبر بوابتها الشمالية الشرقية، وكثيراً ما كانوا يواصلون زحفهم فى اتجاه فلسطين والشام لتأمين احتلالهم لها، أما الغزاة الذين جاءوا قاصدين الشام وفلسطين فعادة ما كانوا يواصلون زحفهم فى اتجاه مصر لتأمين بقائهم فى المشرق، مما جعل من مصر وفلسطين والشام كتلة استراتيجية واحدة ترتبط بمصير واحد.
هذه المعطيات الاستراتيجية فرضت على مصر سياسة خارجية تقوم على دعامتين. الأولى: تستهدف الدفاع عن الحياة والبقاء بالعمل على ضمان استمرار تدفق مياه نهر النيل، وهو ما فرض عليها ضرورة متابعة ما يجرى وراء حدودها الجنوبية، أى فى دول حوض النيل.
والثانية: تستهدف الدفاع عن الأمن والاستقلال، بالعمل على مواجهة التهديدات الخارجية، وهو ما فرض عليها ضرورة متابعة ما يجرى وراء حدودها الشرقية، أى فى فلسطين والشام.
وكان من الطبيعى، فى سياق كهذا، أن تشكل منطقة حوض النيل، من ناحية، ومنطقة الشام، من ناحية أخرى، مجالا حيويا متصلا ومتكاملا لمصر من منظور سياستها الخارجية. لذا لم يكن غريبا أن تتسم هذه السياسة بدرجة عالية من الثبات والاستقرار، وهو ما ظهر بوضوح خلال جميع المراحل التى امتلكت فيها مصر مقومات الاستقلال والنهضة، رغم التقلبات التى كانت تطرأ على شكل النظام السياسى أو على طبيعة النخبة الحاكمة، بين الحين والآخر، عبر تاريخها الطويل والممتد.
غير أن نظرة عابرة على ما يجرى فى المنطقة من تفاعلات فى المرحلة الراهنة تكفى للتوصل إلى نتيجة مفادها أن سياسة مصر الخارجية باتت عاجزة عن تأمين وحماية مجالها الحيوى، سواء على جبهة الجنوب أو على جبهتها الشمالية الشرقية، مما يشير إلى أن خللا ما قد وقع فى تصميم ورسم هذه السياسة بحيث لم تعد متسقة على الإطلاق مع معطيات مصر التاريخية والجغرافية.
صحيح أن النيل ما زال يتدفق عبر حدودها الجنوبية، وصحيح أيضا أنه لا تلوح فى الأفق مخاطر غزو خارجى وشيك عبر بوابتها الشمالية الشرقية، إلا أن بوسع كل مراقب محايد أن يدرك على الفور أن المخاطر والتهديدات المحتملة على مصر، سواء من جبهتها الجنوبية أو من جبهتها الشمالية الشرقية، تتزايد باطراد وبسرعة، وأن قدرة مصر على ضبط ما يجرى، من تفاعلات فى هاتين المنطقتين تتضاءل باطراد وبسرعة أيضا!.
فعلى صعيد الجبهة الجنوبية: يبدو السودان، الذى يشكل مع مصر كتلة طبيعية واحدة كمنطقة مصب لنهر ينبع خارجهما، بات مهددا بالتفتت والانقسام إلى دويلات عدة، والضغوط على مصر من جانب دول حوض النيل لإعادة النظر فى الاتفاقيات الخاصة بتوزيع حصص مياه النهر تتزايد بانتظام، سواء بسبب احتياجاتها الطبيعية المتزايدة من المياه أو نتيجة تعاظم النفوذ الإسرائيلى كان ولا يزال يسعى لمحاصرة مصر وابتزازها للحصول على المزيد من التنازلات وتحقيق تفوق استراتيجى فى الصراع الدائر فى منطقة الشرق الأوسط وعليها.
أما على صعيد الجبهة الشمالية الشرقية فتبدو مصر فى موقف لا تحسد عليه أيضا.
فبعد ثلاثين عاما من توقيع مصر على معاهدة صلح منفرد مع إسرائيل لا يزال السلام غائبا، وأصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية ضعيفة ومنقسمة على نفسها بعد أن عجزت سلطة أفرزها اتفاق «أوسلو» عن التوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ووقع قطاع غزة تحت سيطرة قوة سياسية تعتبرها مصر مناوئة، وترى فيها امتدادا لجماعة الإخوان المسلمين المعارضة بعد أن اضطرت إسرائيل إلى القيام بانسحاب منفرد منه.
ولأن معاهدة السلام التى أبرمتها مصر لم تلزم إسرائيل بأى ضوابط للسلوك تجاه الأطراف الأخرى فى الصراع، فى الوقت الذى فرضت فيه على مصر التزام الحياد فى الصراع، فقد بدت مصر الرسمية فى بعض الأحيان ليس فقط غير قادرة على ضبط التفاعلات فى المنطقة، ولكن أيضا شبه منحازة إلى إسرائيل فى مواجهة أطراف عربية أخرى، وهو ما تجلى بصفة خاصة أثناء حرب إسرائيل على لبنان صيف عام 2006 ثم على قطاع غزة شتاء 2008/2009.
وحين تصبح مصر غير قادرة على ضبط الأوضاع داخل مجالها الحيوى، فمن الطبيعى أن تفقد نفوذها داخل الدوائر الأوسع لحركة سياستها الخارجية، أى الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية. إذ يلاحظ أن قدرة مصر على قيادة العالم العربى، سواء منفردة أو بالتنسيق مع سوريا والسعودية، تقلصت كثيرا فى الآونة الأخيرة.
أما الدائرة الأفريقية فقد أهملتها مصر إهمالا شبه كامل فى عهد مبارك، ولم يعد لمصر من تأثير يذكر على القارة مقارنة بدول صاعدة مثل جنوب أفريقيا، بل إن نفوذها داخل منظمة الاتحاد الأفريقى بدا باهتا حتى بالمقارنة بدول عربية أخرى مثل ليبيا أو حتى الجزائر المشغولة بصراعاتها الداخلية.
نفس الشىء حدث داخل الدائرة الإسلامية، حيث تراجع النفوذ المصرى مقارنة بنفوذ دول كالسعودية أو إيران أو حتى تركيا. وقد ترك هذا التراجع فراغا تنافست لملئه ثلاث دول غير عربية هى: إسرائيل وإيران وتركيا، وهو وضع يبدو غير طبيعى وغير مقبول، شعبيا على الأقل، وبالتالى غير قابل للاستمرار.
ومن هنا الحاجة الماسة إلى مراجعة شاملة لسياسة مصر الخارجية لتشخيص طبيعة الخلل، الذى أدى إلى التراجع فى الدور وفى المكانة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتصحيح الخلل القائم بطريقة تعيد التناغم المطلوب بين سياسة مصر الخارجية ومعطياتها الجيواستراتيجية.
للتعرف على طبيعة الخلل الذى وقع، ربما يكون من المفيد أن نعيد التذكير أولا بالتوجهات الرئيسية لسياسة مصر الخارجية، خاصة منذ الحرب العالمية الثانية، التى أمكن فى سياقها تحقيق التناغم المطلوب مع المعطيات الجيواستراتيجية حين قامت على الأسس التالية:
1- التعامل مع المشروع الصهيونى باعتباره مصدر التهديد الرئيس لأمن العالم العربى ككل.
2- التعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عربية وإسلامية لا يجوز التصرف فيها على نحو منفرد.
3- البعد عن المحاور والتكتلات الدولية واعتماد سياسة عدم الانحياز كركيزة لتحرير الإرادة وحماية استقلال الوطن.
وانطلاقا من هذه التوجهات العامة قامت مصر بمبادرات مهمة بعد الحرب العالمية الثانية منها:
1- تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 واحتضان مقرها فى القاهرة.
2- المشاركة فى الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948.
3- وضع بذور سياسة عدم الانحياز بالامتناع عن التصويت على قرار الحرب التى قادتها الولايات المتحدة على كوريا الشمالية بتفويض من مجلس الأمن عام 1950.
4- اقتراح مشروع قرار أقره مجلس الجامعة العربية عام 1950 يقضى بتوقيع عقوبات على كل دولة عربية توقع صلحا منفردا مع إسرائيل وطردها من الجامعة العربية.
5- صياغة وإقرار معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى العربى. وقد ظلت هذه المبادرات، بدرجة أو أخرى، هى الموجه الرئيسى لسياسة مصر الخارجية حتى حرب أكتوبر 1973، رغم اختلاف طبيعة النظم والنخب والقيادات التى تعاقبت على حكم مصر طوال تلك الفترة. لكن ما إن وضعت حرب أكتوبر أوزارها حتى بدأ الانقلاب الكبير فى سياسة مصر الخارجية.
فقد قرر الرئيس السادات أن حرب أكتوبر يجب أن تكون آخر الحروب، وبدأ البحث عن تسوية سلمية مع إسرائيل بالاستعانة بالوساطة المنفردة للولايات المتحدة الأمريكية التى اعتقد أنها تملك 99% من أوراق الحل، إلى أن قادته خطاه عام 1977 إلى الذهاب إلى القدس وإلقاء خطاب فى الكنيست.
وقد بنى الرئيس السادات توجهات سياسته الجديدة على مجموعة من الافتراضات أهمها:
1- أن إسرائيل أصبحت جاهزة نفسيا للتسوية على أساس العودة إلى حدود 67 وحل عادل لقضية اللاجئين.
2- أن الولايات المتحدة ترغب فى إنجاز مثل هذه التسوية حتى لو اقتضى الأمر ممارسة الضغط على إسرائيل.
3- فى حال تعذر التوصل إلى تسوية شاملة دفعة واحدة يمكن البدء بالمسار المصرى.
4- لن يكون أمام العالم العربى فى نهاية المطاف سوى الالتحاق بركب التسوية طوعا أو كرها.
غير أن الأحداث اللاحقة أثبتت خطأ هذه الافتراضات جميعا، التى انتهى بها المطاف إلى:
1- تسوية منفردة مع إسرائيل رفضتها الدول العربية الأخرى.
2- قطيعة بين مصر والعالم العربى دامت حوالى عشر سنوات ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.
3- احتقان الحياة السياسية فى مصر إلى درجة أدت إلى اعتقال كل رموز الحركة الوطنية المصرية فى سبتمبر 1981.
4- اغتيال الرئيس السادات فى أحد أكثر مشاهد العنف السياسى إثارة فى التاريخ المصرى فى 6 أكتوبر 1981.
وعندما ظهر بوضوح، فى سياق هذه الأحداث المتعاقبة، أن خللا جسيما أصاب سياسة مصر الخارجية، بدأت محاولات لتصحيحه عقب اختفاء الرئيس السادات وتولى الرئيس مبارك أخذت أشكالا عدة منها:
1- التجاوب مع الضغوط الشعبية لتجميد التطبيع واستخدام الخلاف حول طابا وسيلة لتبريد عملية السلام مع إسرائيل.
2- السعى لتصحيح العلاقة المختلة مع الاتحاد السوفيتى وإعادة بعض التوازن المفقود فى صيغة العلاقة مع قمة النظام الدولى.
3- استغلال الحرب العراقية الإيرانية من أجل العمل على إزالة الاحتقان فى العلاقة مع العالم العربى، تمهيدا لعودة جامعة الدول العربية إلى مقرها فى القاهرة دون الاضطرار إلى إلغاء أو تجميد المعاهدة مع إسرائيل، وهو ما تم فعلا قبل نهاية الثمانينيات.
هذه المحاولات «التصحيحية» لم تعكس فى حقيقة الأمر رؤية متماسكة لسياسة خارجية مصرية جديدة بقدر ما عكست مهارة تكتيكية فى توظيف تفاعلات إقليمية ودولية معينة للتحلل من ضغوط داخلية وخارجية ملحة. لذا سرعان ما انهارت أمام أول أزمة كبرى حقيقية حين أقدم صدام حسين على غزو الكويت.
فقد أدارت مصر هذه الأزمة أيضا بمنطق الدولة التى تسعى للاستفادة التكتيكية منها، وليس انطلاقا من رؤية استراتيجية تسعى لاستعادة دور مصر القيادى المفقود فى العالم العربى، ومن ثم خرجت من الأزمة مستفيدة ماديا وسياسيا وخاسرة استراتيجيا، وهو ما اتضح بجلاء بعد نجاح إسرائيل فى إجهاض مؤتمر مدريد.
وهكذا عادت مصر إلى نظام عربى ضعيف وممزق، ولكن دون دور فاعل حيث توقفت فاعليته على قدرة مصر على لعب دور حاسم فى استكمال عملية التسوية الشاملة، أو قيادة العالم العربى نحو إدارة جديدة للصراع تجمع بين العمل السياسى ودعم المقاومة، وهما ما فشلت فيهما معاً.
وقد ترتب على هذا الفشل، خصوصا فى ضوء نجاح المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله فى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى لجنوب لبنان دون شروط، تقزيم الدور المصرى بسبب سعى الولايات المتحدة وإسرائيل لتوظيفه للضغط على الأطراف العربية للقبول بالشروط الإسرائيلية للتسوية، وهو ما بدا واضحا بصفة خاصة فى الفترة التى أعقبت فشل كلينتون فى التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية عام 2000.
وعندما كشرت الولايات المتحدة بقيادة المحافظين الجدد عن أنيابها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، آثرت مصر السلامة وعادت للانكفاء على ذاتها، مما سهل من مهمة الولايات المتحدة فى غزو وتدمير العراق عام 2003. ومع بروز جمال مبارك على مسرح السياسة المصرية بدا واضحا أن القيادة المصرية أصبحت مشغولة بترتيب خلافة السلطة فى مصر أكثر بكثير من انشغالها باستعادة دورها القيادى فى العالم العربى.
وربما يفسر هذا الانشغال عودة الدفء إلى العلاقات المصرية الإسرائيلية، بالإفراج عن الجاسوس الإسرائيلى عزام عزام قبل انتهاء مدة عقوبته، ثم إبرام اتفاقية الكويز مع إسرائيل، وأخيرا بإبرام صفقة لمد إسرائيل بالغاز المصرى بسعر يقل عن الأسعار العالمية.
يلفت الانتباه ويثير التأمل هنا أن عودة الدفء للعلاقات المصرية الإسرائيلية لم يواكبها اعتدال فى السلوك وإنما واكبها، على العكس، تشدد بالغ وصل إلى حد خوض حربين كبيرتين خلال أقل من عامين، إحداهما ضد لبنان عام 2006 والثانية ضد غزة عام 2008، حيث ألقت مصر الرسمية باللوم فى الأولى على حزب الله وفى الثانية على حماس، وبما أوحى بأنها بدأت تتبنى عمليا وجهة النظر الإسرائيلية والأمريكية التى تحاول الترويج إلى أن إيران والأصولية الإسلامية والمنظمات «الإرهابية»، وليس القضية الفلسطينية أو الصراع العربى الإسرائيلى، هى مصادر التهديد الرئيسية للأمن فى المنطقة.
فى سياق ما تقدم يمكن القول بأن مصر ستواجه فى المرحلة المقبلة جملة من التحديات التى تنطوى على تهديدات محتملة مباشرة لأمنها الوطنى، يتمثل أهمها فى:
1- تفتت عدد من الأقطار العربية تحت وطأة الصراعات الاثنية والقبلية والدينية والقومية، على رأسها السودان.
2- انهيار عملية التسوية نهائيا، خاصة على المسار الفلسطينى، ونجاح إسرائيل فى فرض تسوية بشروطها قد تتضمن فرض توطين أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين فى سيناء تحت شعارات التعمير والتنمية.
3- تنامى قوة كل من إيران وتركيا وإسرائيل إلى الدرجة التى تؤهلها للعب أدوار إقليمية تتنافس على النفوذ فى المنطقة وتسعى لاقتسامه.
وفى تقديرى أن استمرار سياسة مصر الخارجية على ما هى عليه لن يؤدى إلا إلى زيادة التحديات خطورة وتعقيدا، ما لم تتوافر لقيادتها السياسية إرادة حقيقية لمواجهة هذه التحديات والخروج عن الطوق الأمريكى فسوف يستمر تدهور دورها ووضعها ومكانتها فى النظامين الإقليمى والعربى.
وحين تتوفر لقيادتها هذه الإرادة السياسية فسوف تظهر الحاجة الماسة لتغيير بوصلة سياسة مصر الخارجية انطلاقاً من الأسس التالية:
1- التعامل مع إسرائيل باعتبارها مصدر التهديد الرئيسى على أمن مصر وأمن العالم العربى، الذى يسبق أى خطر آخر، مما يفرض عليها السعى لحشد كل الطاقات وتعبئة كل الجهود لمواجهته بكل الوسائل المتاحة، بما فى ذلك دعم وترشيد عمل المقاومة المسلحة، والعمل على إعادة توحيد الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال المساعدة على إعادة بناء منظمة تحرير فلسطينية أصدق تمثيلا للشعب الفلسطينى وحرصا على ثوابت نضاله.
2- إعادة ترتيب البيت العربى على أسس جديدة والسعى لبناء توافق عربى حول صيغة للتكامل تحقق منفعة متبادلة لجميع الدول العربية ويكسب منها الجميع.
3- فتح صفحة جديدة فى العلاقات مع إيران. تبدأ بإعادة العلاقات على مستوى السفراء ، ودعم علاقات التعاون مع تركيا، وتمهيد الطريق لحوار عربى-تركى-إيرانى يستهدف البحث عن حلول إقليمية متوازنة لمشكلات الأمن فى المنطقة.
غير أننا نعتقد أنه يصعب تبنى مصر هذه التوجهات الجديدة فى سياستها الخارجية دون تغيير فى بنية نظامها السياسى الراهن الذى يشهد فى المرحلة الراهنة بداية لحالة حراك من نوع جديد من المتوقع أن تتصاعد تدريجيا على مدى العامين المقبلين لتصل ذروتها أثناء الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها فى أكتوبر عام 2011، التى ستسبقها انتخابات تشريعية شديدة الأهمية والحساسية فى نهاية عام 2010.
وفى تقديرنا أن نتائج هذه الانتخابات هى التى ستؤشر لحجم التغير الذى سيطرأ على سياسة مصر الخارجية، وبالتالى مدى قدرة مصر كدولة وكنظام وكمجتمع على مواجهة تحديات الحقبة المقبلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.