حادثة خطف أو قتل المصريين في ليبيا ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. وإن كانت الخارجية المصرية قد انتبهت أخيرا، وبدأت في التحذير من خطورة السفر هناك، فهل هذا يكفي لتبرئة ساحة السلطة الحاكمة من مسئوليتها تجاه آلاف، وربما ملايين المصريين، سواء في الداخل أو الخارج، وأن يتم إلقاء اللوم على من يلقي بنفسه في التهلكة ويغامر بحياته؟ أو نستغل هذه الحوادث المتكررة وندق طبول الحرب، وندعو للتدخل العسكري في الدولة الشقيقة بشكل انفرادي أو بالتعاون مع أطراف اقليمية ودولية؟ بالطبع، من السهولة إلقاء التبعة على داعش والمتطرفين القتلة، لكن هل بهذه الطريقة سيتم حل أزمات حالية ولاحقة لملايين المصريين؟! وهل من الإنصاف إدانة الضحايا الذين ضاق بهم الحال في وطنهم، وأضطرهم السعى وراء لقمة العيش إلى المجازفة وتحمل المخاطر الجمة، بما في ذلك خطر الاحتجاز أو الاختطاف أو حتى الموت، يتساوى في ذلك من يذهب إلى ليبيا أو العراق أو من يركب قوارب الموت إلى أوروبا، أو من يغامر بالصيد بمراكب متهالكة أو غير مؤهلة خارج الحدود؟. فلولا الأمر ما تحمل هؤلاء الخيار المر، وما راهنوا على إمكانية أن يكتب لهم النجاة والخلاص بأي ثمن، ولو بالسير في طريق مجهول محفوف بالمخاطر، فيما البقاء في مصر يعني الموت المحقق جوعا أو مرضا أو حتى قهرا، بعد أن بات حق الحياة الكريمة من المستحيلات للغالبية القصوى يتساوى في ذلك من نال شهادة جامعية مع الأمي، طالما ليس من فئة النصف في المائة التي تحتكر الثروة والسلطة أو ذوي الحظ والمحسوبية والوصوليين بائعي ضمائرهم، بعد أن باتت القاعدة المعتمدة أن الأثرياء يجب أن يزدادوا ثراء والفقراء يجب أن يزدادوا فقرا، وبعد أن انعدم نهائيا تكافؤ الفرص، وانسدت طرق الصعود الشريف، وبات محكوم على الملايين أن يواجهوا مصيرهم المآساوي حتى دون شكوى، وكأنهم عالة على بلدانهم، أو عبء ثقيل، أو عار يجب التخلص منه. فلو كانت هناك سلطة تنطلق من الولاء لشعب اختارها ومنحها شرعية حقيقية، وليست مزيفة أو بالقوة والخداع، لعملت على خدمة مصالحه، وليست مصالحها الانتهازية الضيقة، ومعالجة جوهر هذه الأزمات، ودوافع هرب المصري من بلده إلى مناطق نزاعات مسلحة خطرة، وبلدان مضطربة سياسيا وأمنيا كليبيا. فالحكومات وليست العصابات الحاكمة بالقوة والقهر والاستغلال هي من تسعي لتوفير فرص العيش الكريم لشعبها، وتبذل ما في وسعها لمحاربة الفقر والبطالة، وتوليد فرص عمل وتعظيم موارد الدولة المادية والبشرية، وتوظيفها لسد احتياجات الجماهير، والقيام بدورها التنموي والاجتماعي، وإقرار العدالة والحقوق بكل صورها، لا أن تنحاز لفئة محدودة، وتترك الأغلبية نهبا للاستغلال والعوز بلا مظلة حماية اقتصادية واجتماعية، وبلا حقوق تكفلها الدولة، خاصة للفئات الأضعف. في ذات الوقت، ليس من الحكمة استغلال سخونة الحدث والمشاعر المتأججة في خوض مغامرة عسكرية في ليبيا تعقد الأمور أكثر مما هي عليه، حيث أن الدعم الحالي لمعسكر ضد معسكر في الدولة الجارة تنفيذا لإملاءات غربية على كل من النظام المصري ودول الخليج، هو ما ساهم في استعداء فئات عديدة ضد مصر وأهلها، وأربك المشهد الليبي، وخصم من رصيد الدولة العربية الكبرى التي كانت القائدة لأمتها، ودورها التاريخي ومكانتها والتي كان من المفترض ألا تتورط في صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل، وأن تسعى للتقريب بين كل الأطراف، والعمل على إنجاز مصالحة ليبية بمساعدة دول الجوار خاصة الجزائر، بالتوازي مع تصور واقعي لإعادة بناء نظام سياسي جديد ينسجم مع تطلعات كل الليبيين، ويملأ الفراغ الذي تركه العقيد القذافي وتركة اللادولة التي خلفها، بدلا عن الاحتكام للسلاح وصراع القوة الراهن الذي يأخذ ابعادا مناطقية أو قبلية، فضلا عن البعد الايديولوجي ولعبة المصالح الدولية. في الأخير، يبدو من المستبعد أن تغير السلطة الحاكمة من سياستها الخارجية تجاه ليبيا، ومجمل سياساتها الداخلية والخارجية الفاشلة والتابعة، وتتحرر من خدمة المصالح الغربية، وكذا الحال فيما يخص العمل على توفير بدائل للمصريين في الداخل، حتى لا يهربوا إلى مصير مجهول في الخارج. وعلينا أن ننتظر المزيد من المآسي، حتى يأتي يوم يحكم مصر من يعمل لصالح الوطن والمواطن. المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية