ربما يكون العنوان العريض الآن الذي يصلح لتوصيف الوضع الليبي الراهن “العنف والفوضى”، بعد أن باتت أحداث القتل والاختطاف والاحتجاز لمواطنين ليبيين، وحتى لموظفين دوليين وأجانب، تتم بوتيرة معتادة، ومحاصرة واستهداف المؤسسات الحيوية، وتعطيل الموانئ وقطع خطوط الغاز تجرى بشكل يومي، والأخطر هو عمليات الاغتيالات الواسعة لقيادات عسكرية وأمنية ونشطاء، والضربات الموجهة لمقرات البعثات الدبلوماسية التي لم تسلم منها حتى السفارات العربية، وآخرها سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة بطرابلس، بعد تفجير السفارة الفرنسية من قبل، والقنصلية الأمريكية في بنغازي وقتل السفير الأمريكي هناك، وما تؤشر إليه من رغبة في إحراج السلطة الحاكمة الحالية وإظهارها بمظهر العاجز، وعزلها عربياً ودولياً . تبدو التقديرات متشائمة إزاء مستقبل العملية السياسية في ليبيا، وإمكانية الوصول لدولة مؤسسات قوية تفرض إرادتها بقوة القانون، وتحقق الأمن والاستقرار، وتسير للأمام لا للخلف . وثمة علامات استفهام تطرح نفسها في هذا السياق، أهمها من يقف وراء كل هذه الأحداث التي تبدو ممنهجة؟ وما الرسائل التي يريد أن يرسلها؟ وأين دور الحكومة والمجلس الوطني وسط هذه التطورات المزعجة؟ الإجابة، بالتأكيد ليست سهلة، في ظل غياب تحقيقات جادة وعدم توافر معلومات، غير أن دائرة الاشتباه تتسع لتضم أكثر من جهة، من دون وجود أدلة قاطعة، وإنما افتراضات وشبهات، على قاعدة من المستفيد من هذه العملية أو تلك؟ ومن يتضرر من الوضع القائم؟ وعندما تتحدث مع نشطاء ومثقفين ليبيين، ستجد أن ثمة من يذهب إلى اتهام رموز نظام معمر القذافي، بأنها تقف وراء كل هذه العمليات، من باب الثأر والانتقام مما يسموه ب”مؤامرة الناتو” التي أطاحت نظام حكم ليبيا الذي حكم لعقود طويلة بالحديد والنار، خاصة مع تفعيل قانون العزل السياسي، وتهميش أدوارهم وملاحقتهم قضائيا ومجتمعيا . وثمة من يرجع الأمر، إلى محاولة الإخوان المسلمين السيطرة على ليبيا عبر نشر الفوضى، ومناخات الفزع العام وإفشال جهود الحكومة الحالية، بالاستعانة بالسلفية الجهادية، رغبة في إضعاف التيار الليبرالي الذي اكتسح على غير المتوقع الانتخابات السابقة، وحتى تجد بيئة مواتية لطرح نفسها كبديل أفضل، ولتنفيذ “مشروع الدولة الإسلامية” التي مرجعيتها الوحيدة “الشريعة” . وكثيرون يرون أن فوضى السلاح، أو بالأحرى الميليشيات المسلحة هي التي تقف وراء الكثير من الحوادث، رغبة في فرض سطوتها على الدولة، واستشعارا لقوتها، فضلا عن آلاف الشباب الذين شاركوا في إسقاط نظام العقيد، ثم وجدوا أنفسهم خارج اللعبة مهمشين، فخرجوا على هؤلاء الذين يتصورون أنهم سرقوا ثمار تضحياتهم وجهدهم، فضلا عن وجود قوى سياسية عديدة تستغلهم لأجندات خاصة بها . والقليل فقط يتحدث عن “المؤامرة الخارجية”، وأياد تعبث بالداخل الليبي، لتسهيل عملية استغلال الموارد الليبية، خاصة النفطية . وربما كل من هذه الطروحات لها قدر من المنطقية، والوجاهة، لكن أياً منها لا يصلح وحده لتفسير كل هذه الوقائع اليومية . رؤى إقصائية وتبقى المشكلة الكبرى في بنية النظام الليبي نفسه الذي كان يسيطر عليه لعشرات السنين “قائد أوحد” بلا مؤسسات ولا معارضة حقيقية تذكر، وبالتراضي مع شيوخ القبائل، فحين سقط هذا “القائد الأبوي” الذي يحتكر السلطة والثروة، حدث فراغ واسع لم تستطع القوى الصاعدة أن تملأه حتى اللحظة، وزاد الأمر تعقيداً محاولة كل تيار فرض هيمنته وتبني رؤى إقصائية، ما جعل بناء المؤسسات متعسراً، وما خرج للنور كان هشا ومرتبكا، وليس على قاعدة توافق واسع، وسط صراعات مفتوحة وواضحة بين الفرقاء السياسيين، قادت إلى إضعاف الحكومة، وإحراج وضعها داخلياً وخارجياً، وجعلها غير قادرة على أداء مهامها، إلى جانب أن المجلس الوطني ذاته، لم يثبت قدرته على التعاطي مع التحديات الضخمة، وأصبح محل رفض من قبل كثيرين، ويرون أنه ليس إلا مؤسسة شكلية تستنزف أموال الشعب لصالح مجموعات لا تمثل بشكل حقيقي مصالح الليبيين، رغم أنهم منتخبون، لدرجة أن ثمة دعوات بدأت تتصاعد بشأن إسقاط “شرعية الصندوق” على غرار التجربة المصرية التي أطاحت الإخوان المسلمين، والاحتكام للشارع، فضلا عن دعوة استبدال المجلس الوطني بلجنة تمثل كل الأقاليم الليبية والقبائل لإنقاذ ليبيا من النفق المظلم . وربما البنية القبلية، وعدم رسوخ فكرة الدولة في أذهان غالبية الليبيين، بما تعنيه من مؤسسات وقانون واحتكار الدولة فقط لممارسة العنف عند الضرورة، وتقديم الانتماء القبلي على ما عداه لدى كثير من الليبيين، كل ذلك نال من هيبة الدولة وسهل خرق القانون، والاستقواء بالسلاح أو بالقبيلة لفرض أمر واقع بالقوة أو التهرب من العقاب وتحمل المسؤولية عن الأفعال أو الجرائم التي تُرتكب، وهنا أيضا يمكن الإشارة إلى طرح الفيدرالية ومحاولة كل إقليم الاستقلال بذاته، ومحاولة النيل من فكرة الحكومة المركزية والدولة الموحدة، وكذلك احتجاجات الأمازيغ على عدم دسترة حقوق خاصة بهم في الدستور، وتلويحهم بالتصعيد . وهذه المعطيات تجيب عن التساؤل الخاص، بدور الحكومة والمجلس الوطني، أو بالأحرى غيابه، وإن كان لا يمكن إعفاء أي منهما من مسؤولياته، حيث إن الصراع السياسي، وتصفية الحسابات بين كل تيار وآخر، أو مع أنصار النظام السابق، عرقل مبادرة “المصالحة الوطنية” التي كان يجب أن تحظى بالأولوية على أجندة كل من المجلس الوطني والحكومة، في إطار قواعد “العدالة الانتقالية” المتعارف عليها دوليا التي تشمل كشف الحقائق والإنصاف للمضارين وتعويضهم، وضمان عدم إفلات كل من ارتكب انتهاكات جسيمة أو جرائم من العقاب . غير أن التلكؤ في هذا الأمر، أضاع على ليبيا فرصة لم الشمل وتخفيف حدة الاحتقان ووضع الشعب الليبي على الطريق الصحيح، والتفرغ لمعركة البناء والتنمية . إضافة، إلى فشل كل من المجلس الوطني والحكومة في استيعاب الجماعات والأفراد المسلحين وإدماجهم في جيش وطني موحد، بعد تأهيلهم، بحيث يكون ولاؤهم الأول والأخير للدولة، وليس للقبيلة، مع الرضوخ في أحيان كثيرة لابتزازهم وإهدار هيبة القانون، فضلاً عن العجز في احتواء فئة الشباب الذين يشعرون بالتهميش، وأنهم قدموا تضحيات في “معركة التحرر من الديكتاتور”، ثم عادوا بخفي حنين . وجزء من الأزمة كذلك، شعور قطاع من الشعب الليبي بأن ثمة حضورا غربيا على الأراضي الليبية أمريكياً وأوروبياً بشكل خاص، ينال من فكرة الاستقلال الوطني، ويستهدف استغلال ثروات ليبيا بالمنطق الاستعماري القديم، الأمر الذي يحتاج لمراجعة لتبديد هذه المخاوف، وإشعار هؤلاء أن ثمة مؤسسات دولة تحمي مصالح الليبيين ولا تفرط فيها، وأن القرار الليبي نابع من المصلحة الوطنية وليس بتوجيهات أو ضغوط خارجية عربية أو أجنبية . تزايد العنف وإن كانت المؤشرات تشير إلى أن وتيرة العنف في ازدياد مطرد، وأن هذه الأجواء لا تصلح ل”المصالحة الوطنية”، مع تبادل الاتهامات، ومناخ من عدم الثقة والتوجس، وسط وصول العملية السياسية في ليبيا إلى منحى خطر، فيما تكون ليبيا قد دخلت أو على وشك الدخول إلى “السيناريو الصومالي”، وباتت على مقربة من تصنيف “الدول الفاشلة” العاجزة عن فرض الأمن والنظام، إلا أن ثمة فرصة لا تزال متاحة بحكم الموارد الليبية الوفيرة وموقعها الاستراتيجي القريب من أوروبا، ما يجعل أنظار العالم والقوى الكبرى تلتفت إليها، ولا تتركها لمصير مجهول . غير أن الأمر رهن باستشعار الفرقاء السياسيين حجم الخطر الذي تمر به ليبيا، وتداعيات الصراع السياسي المفتوح على مستقبل هذا البلد، وربما يكون الوصول إلى هذا التقدير للموقف، بداية لإبداء كل الأطراف الاستعداد للجلوس على مائدة حوار وطني، يفتح الطريق إلى “توافق عام” يزيل حدة الاحتقانات والتجاذبات السياسية والمجتمعية، وقد يكون من المفيد تدخل الجامعة العربية، وتبنيها لهذه المصالحة على غرار ما فعلته قبل سنوات من مبادرة جمع الفرقاء العراقيين، للمساعدة على رسم خارطة مستقبل جديدة لليبيا، يتقدمها الإسراع بانجاز دستور جديد للبلاد يلبي طموحات كل قوى المجتمع بلا تهميش أو إقصاء، وتكريس دولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية . إلى جانب ضرورة إعادة بناء الأجهزة الأمنية ومؤسسة الجيش على قواعد احترافية، وتفعيل مبادرة جمع السلاح، وربما يكون ثمة حاجة هنا للاستعانة بالخبرة الدولية، خاصة من مؤسسات الأممالمتحدة، وبعض الدول الصديقة التي لا تسبب حساسية للشعب الليبي . وقد يتطلب الأمر، تغييراً كلياً أو جزئياً للحكومة، والاستعانة بكفاءات من كل التيارات، حتى تحظى برضاء شعبي، بدلاً من حالة السخط الحالية إزاءها، فضلاً عن ضرورة تحسين المجلس الوطني لأدائه ومحاولة تغيير الصورة السلبية عنه لدى الجماهير أو حتى الدعوة للاستفتاء على بقائه أو إعادة انتخابه إن لزم الأمر . وبدون المبادرة لهذه الإجراءات العاجلة والملحة، مع دور نشط للإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، لدعم التحول الديمقراطي، وإدراك أن الوقت والعنف ليس في صالح أي طرف، ستظل ليبيا تدور في دائرة مفرغة من العنف والفوضى، ولن يكون أمام الليبيين سوى مستقبل غامض ومصير محفوف بالمخاطر . [email protected]