رائحة حذائه دفعت صحفيين للاشتباك معه في أبريل 2011 قبل أن يحتفل بزفافه في فندق الماسة 2014.. كلنا يعرف أن التحولات التي عرفتْها أوساط الثورة المصرية وثوارها، خلال العام 2014، كانت هائلة بشكل لا يُمكن تصديقه، بحيث بتنا مجبرين على تذكر تلك العبارة الخالدة، التي نقلها نجيب محفوظ ذات مرة عن أحد المفكرين، والتي تقول إن "الثورة يقوم بها المتهورون عادة ويفوز بها الأنطاع غالباً". نعرفُ ذلك جيداً ونقرّ به، لكن حالة واحدة من حالات الثورة المصرية، هي حالة "مؤسس تمرد" محمود بدر، لم تكن ما عرفته في 2014 من تحولات شيئا يُمكن فهمه أو تفسيره بسهولة أبداً، بل على العكس، كان ما حدث معه في هذا العام بالذات، نوعاً من الخزعبلات التاريخية المفزعة، التي يتسم بها التاريخ المصري، على طوله وتنوّعه. هل يمكن أن يتحول شاب مصري عادي جداً وفقيرفي العام 2011، (والفقر طبعاً ليس عيباً، على الأقل من وجهة نظري، حيث كنتُ وربما لا أزال فقيراً) إلى "حوت" ينتقل إلى السكن والإقامة في شقة فاخرة في مصر الجديدة، ويتحرك بسيارة فارهة موديل 2013، ويقيم حفل زفافه في واحد من أفخم فنادق القاهرة، (فندق الماسة التابع للقوات المسلحة) موجهاً الدعوة إلى رئيس الجمهورية، وهو الزفاف المفترض أنه انعقد الخميس الماضي، بعدما أحيط بالسرية التامة، وإجراءات أمنية دقيقة، خوفاً من اعتداءات ربما تطاله من مجموعات ممولة إخوانياً، بحسب تقارير صحفية. الحق أنني لم أكن رأيت محمود بدر مؤسس "حركة تمرد"، ولم أكن سمعت اسمه، قبل ليلة من ليالي أبريل الحارة، العام 2011، حين دخلتُ مع مجموعة من الزملاء مقر اعتصامنا في نقابة الصحفيين، ضد أحد رؤساء تحرير مجلة الإذاعة السابقين، حيث صدمنا إلى حد الإغماء، من رائحة عفونة تفوح من مكان ما في غرفة الاعتصامات الأنيقة في الدور الأرضي، والتي لم يكن يعتصم فيها غيرنا، وبينما كنا عائدين من شراء العشاء، فوجئنا بالرائحة الكريهة تنبعث من حذاء غريب مُلقى في أحد الأركان، بينما يتمدد جسد صغير جداً تحت ملاءة خفيفة، لم نرها هي الأخرى من قبل. تحت وطأة العفونة نظرنا جميعاً إلى الملاءة ونحن نقول في نفس واحد مندهشين: "مين دا؟".. أحدنا هجم على الجسد الذي بدأ يتحرك تحت الملاءة، وسمعناه يقول بصوت خائف: "يا جماعة أنا اسمي محمود بدر.. هنام ساعتين في الأوضة جنبكم، معلش علشان عندي أتوبيس الصبح مع الجماعة اللي رايحين مظاهرة غزة".. كانت دعوات شبابية ظهرت في هذه اللحظة تطالب إسرائيل بالتوقف عن العدوان على الفلسطينيين، وتفتق ذهن الثوار عن الدعوة إلى التحرك بأتوبيسات نحو الحدود الشرقية لتبليغ إسرائيل رسالة مفادها أن الملايين التي أسقطت نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، هي نفسها التي لن تقبل بالاحتلال وجرائمه. وسط هذه المعمعة، ولأننا لم نكن نريد أن نصدق في وجود علاقة بين النضال من أجل فلسطين الحبيبة، ورائحة الحذاء النتن،التي تؤكد أن صاحبه لم يكن يعرف طريقه إلى الماء منذ عدة أسابيع، بدأ أحدنا يصرخ في بدر النائم في مستقنع العفونة ويصرخ فيه لكي ينظف أولاً قدميه بالماء والصابون ويضع ثانياً حذاءه على باب النقابة في الهواء الطلق، قبل أن نسمح له بالنوم في الغرفة. فعل محمود كل ما طلبناه منه وأكثر، وحين عاد سألته عن بلده فقال لي: أنا من بلد اسمها شبين القناطر.. وعمي هو الصحفي عمرو بدر.. ساعتها ابتسمت للشاب المسكين المكافح، وقلت له إننا بلديات وإن عمه عمرو بدر صديق وزميل عزيز، ثم تركته لينام، وفي الصباح خرج من الغرفة، ناسياً رائحة العفونة،حيث اضطررنا لدفع عشرة جنيهات مصرية لعامل نظافة في النقابة، لكي يغسل الغرفة منها. عن أية تحولات في الشخصية "الثورية"، يُمكن أن نتحدَّث الآن، حيث لم يكن هذا الفتى ثوريا في أي يوم من الأيام بل للحكاية قصة آخرى، يمكن تتبع مساراتها، من حكايات متداولة بين الناس في بلدنا شبين القناطر. الحق أنني يجب أن أعترف أنني كنت واحداً ممن وقعوا على استمارة تمرد ألكترونياً من دون أي احساس بالندم الآن، لكنني لم أكن أتصور أنها ستأتي في يوم من الأيام بأحد المماليك الذين يحكمون هذا البلد منذ مئات السنين، والذين يرتدون مسوح الثوار في البداية، ثم سرعان ما يتحولون إلى مماليك، في بلاط صاحب الجلالة، وهذا ما حدث بالضبط مع محمود بدر. كيف يمكن لشاب فقير أن يتحول إلى أحد أغني أغنياء الريف في صفقة ثورية، إلا إذا كانت هذه الصفقة نفسها مشبوهة تماماً.. والحق أن أهم معامل تغيير في حياة محمود بدر، لم يكن هو مصنع البسكويت، الذي خصص له بقرار جمهوري، ولا العمل الثوري الذي يلقي نجومه أسوأ معاملة في السجون، ولم يكن تحول بدر بسبب تأسيسه حركة "تمرد"، التي أسقطت حكم جماعة الإخوان، ولا محاولته الفاشلة لتأسيس "حزب"، بل الحقيقة أن الشخصية التي تنفق من جيبها على محمود بدر، وتركت أبلغ الأثر في تحولاته المريبة، هي شخصية "ي. أ"، أحد رجال الحزب الوطني "المنحل" في دائرة شبين القناطر، وهو في الأصل محام لكنه يعتبر أشهر تجار الآثار والسلاح والمخدرات في المحافظة، منذ أن كان اللواء محمود وجدي، وزير الداخلية الأسبق، مديراً لأمنها. هذا المحامي، سبق أن ترشح عن الحزب الوطني "المنحل"، في برلمان 2010، لكنه خسر، وأسس حزباً باسم "العدالة" وترشح عنه في 2012 لكنه خسر، وحين لم يجد شيئا يفعله، قرر تبني محمود بدر، ومنحه سيارة فارهة وشقة فاخرة في مصر الجديدة، على طريقة طلعت زكريا وسامي سرحان مع عادل إمام في فيلم "بخيت وعديلة الجردل والكنكة"، للعبقري لينين الرملي، وبات محمود يتحرك في هذه السيارة منذ اختير في لجنة الخمسين لإعداد الدستور الجديد. والحق أن دولة المماليك تجد طريقها للعودة إلى هذه الأرض منذ مئات السنين، مستندة على أدوات النفاق السياسي للسلطة، واستغلال ثغرات القانون، فقد صدر قرار جمهوري، باعتبار محمود بدر أهم مرشح في الانتخابات المقبلة، ووفقاً لتصريحات رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي، فإنه تم تخصيص ملايين الجنيهات لإصلاح طريق "شبين القناطر قليوب" وطريق "شبين مسطرد" إصلاحاً هيكلياً، كما تم تخصيص قطعة أرض زراعية، لصالح مصنع أطعمة غذائية، كل ذلك من أجل سواد عيون المملوك الجديد، الذي ينتمي أصلاً وفرعاً إلى مملوك الحزب الوطني "المنحل"، ولكي لا تتأثر دولة المماليك التي تحكم منذ مئات السنين، لا يفرق معها حسني مبارك أو عبدالفتاح السيسي. ما يحدث مع محمود بدر في شبين القناطر أن أجهزة الدولة تميزه وتمنحه العطايا والأراضي والمصانع لكي ينجح في مهمته البرلمانية، ولكي يكون بوقاً للنظام الجديد، ما يعني أن النظام القديم لا يزال يحكم، فحين نجح عضو مجلس الشعب الإخواني عن دائرة شبين القناطر في انتخابات 2005، لم تحظ الدائرة بمليم واحد من ميزانية المحافظة، أما الآن فقد دخلت الدائرة خريطة اهتمام الدولة، وحظيت بما لم يحظ به الأوائل، فشكراً للمملوك الجديد، محمود بدر، أفضل من يمثل دولة "الفلول". وهكذا لا يجب أن ننهي هذا المقال سوى بكلمات الشاعر العظيم أحمد فؤاد نجم في قصيدته "عريس الغفلة"، التي كتبها لجمال مبارك، نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك حين أعلن زفافه الأسطوري، في ظل حديث التوريث الذي قامت بسببه ثورة يناير 2011، فإذا برمز ثوري لثورة 30 يونيو يكرر المأساة نفسها بأسلوب جديد: مبروك ياعريسنا... يابوشنه ورنه ياواخدنا وراثه... افرح واتهنى واطلع من جنه... حود علي جنه مش فارقه معانا... ولاهاريه بدنّا ولاتاعبه قلوبنا... ولافاقعه بضانّا ياعريس الغفله... اطلب واتمني ماحناش كارهينك... لكن عارفينك هاتكمل دينك... وتطلع دينّا.. محمود خير الله محمود خير الله